بعد عام من “أميركا أولاً”، العالم ينظر إلى أميركا -وترامب- بثقة أقل

بعد عام من “أميركا أولاً”، العالم ينظر إلى أميركا -وترامب- بثقة أقل

 

قبل عام تقريباً من هذه الأيام، استخدم دونالد ترامب خطاب تنصيبه في الرئاسة لإصدار ما وصفه بأنه “مرسوم جديد يجب أن يُسمع في كل مدينة وكل عاصمة أجنبية وفي كل بلاط سلطة”. وأعلن: “واعتباراً من هذا اليوم وصاعداً، سوف تكون أميركا أولاً فقط”.
وقد أجفل العالم وانتظر بنفس مقطوع. ماذا يعني هذا التأكيد الصريح على الاهتمام الأميركي بالذات؟
الآن، بعد مرور 12 شهراً، ثمة بعض الأحذية الكبيرة التي لم تسقط بعد. وعلى سبيل المثال، لم يشن الرئيس الحرب التجارية على الصين، كما كان قد هدد. كما أنه لم يتراجع إلى الانعزالية؛ فهناك المزيد من القوات الأميركية في أفغانستان الآن مقارنة مع عدد هذه القوات قبل عام، ويتابع السيد ترامب القتال ضد ما تدعى الدولة الإسلامية “داعش”.
لكن عدم ثقته ورفضه للاتفاقيات والمؤسسات الدولية، من حلف الناتو إلى صفقات التجارة متعددة الأطراف، ومن الاتفاق على الحد من انبعاث الغاز من البيوت الخضراء إلى الاتفاق لضبط برنامج إيران النووي، كل ذلك غير مكانة أميركا العالمية. وكانت واشنطن، تاريخياً، زعيماً عالمياً، لكنها أصبحت اليوم خارج العديد من القضايا الرئيسية. ووجد مركز أبحاث “بيو” أن 22 في المائة فقط من الجمهور الأجنبي يثق بأن الرئيس الأميركي يفعل الشيء الصحيح في الشؤون الدولية.
ويقول أيان بريمير، رئيس المجموعة اليوراسيوية، مؤسسة استشارات الأخطار السياسية التي تتخذ من نيويورك مقراً لها: “إن دونالد ترامب يضعف المؤسسات والثقة والتحالفات. وسوف يقل الدور الأميركي في العالم بشكل كبير، كما أن بعضاً من ذلك الدور لن يعود أبداً”.
مع عدم وجود أي لاعب آخر قوي بما يكفي للصعود وتولي مسؤولية أميركا التقليدية في الإشراف على النظام الدولي، قد تجد الدول القومية الكبيرة أو الصغيرة على حد سواء إغواء بالاقتداء بواشنطن والسعي إلى تحقيق مصالحها الضيقة الخاصة، بغض النظر عما يترتب على ذلك من تكلفة على الآخرين.
وقد يكون ذلك خطيراً. ويعرب مانويل لافونت رابنويل، الذي يدير مكتب باريس للمجلس الأوروبي للعلاقات الأجنبية، عن القلق من أن “السياسات الأمنية القومية الفردية المتنافسة لن تصنع أمناً دولياً”.
الأمور جارية كالمعتاد؟
في العديد من أنحاء العالم، تغيرت الممارسة اليومية للسياسة الخارجية الأميركية قليلاً في العام الماضي. ففي شرق آسيا، ما تزال تحالفات واشنطن مع اليابان وكوريا الجنوبية قوية. وما تزال الولايات المتحدة تبدو مصممة على المحافظة على سطوتها في الباسفيكي –حيث جرّت الهند وأستراليا إلى استراتيجيتها لاحتواء الصين. وعلى الرغم من أن ترامب سحب الولايات المتحدة من شراكة عبر الباسفيكي -اتفاقية التجارة الإقليمية التي كانت العمود الاقتصادي لتلك الاستراتيجية- فإن التجارة الأميركية مع البلدان الآسيوية-الباسفيكية ما تزال قوية.
يقول تشين دينغ دينغ، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جنان في غوانغزو في الصين: “لا تستطيع أميركا الانسحاب من المنطقة. ليست مغادرة اتفاق عبر الباسفيكي انقطاعاً كاملاً مرة وللأبد”.
في موضوع كوريا الشمالية، بينما خاض ترامب في تغريدات صاخبة واستفزازية حول “رجل الصاروخ” كيم جونغ أون وحجم زره النووي، فقد اتبعت واشنطن كتاب اللعب الدبلوماسي التقليدي؛ فذهبت الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة وكسبت الموافقة على فرض عقوبات أشد، وضغطت على بكين للتأثير على حليفتها، تماماً مثلما كانت الإدارات الأميركية السابقة قد فعلت.
وفي إفريقيا، للولايات المتحدة القليل من السياسة الواضحة أبعد من تصعيد خطوات إدارة أوباما لزيادة انخراط واشنطن في عمليات التصدي للإرهاب في مالي ومنطقة السهل الأفريقي. وفي سورية، حافظ ترامب على سياسة أوباما في قتال “داعش”، وإنما ليس على الأرض. وفي أفغانستان، زاد أعداد القوات الأميركية.
أما فيما يتعلق بالاسترتيجيات الجديدة للأمن القومي الأميركي والدفاع القومي، فإنها تشحذ فقط وجهة نظر الإدارة السابقة تجاه الصين وروسيا باعتبارهما منافستين يجب التصدي لتهديداتهما.
حلفاء مغضبون
كما بدا ترامب وأيضاً على خلاف مع أقدم حلفاء أميركا حول العديد من القضايا -بما في ذلك اتفاق باريس للمناخ، التي أعلن منها أن الولايات المتحدة سوف تنسحب ما لم يتم تعديل المعاهدة لتناسب ذوقه؛ والاتفاق النووي الإيراني، الذي هدد بانتزاعه من أسنان المعارضة من كل موقَّعٍ آخر ليه: ونقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، وهي سياسة رفضها تقريباً كل بلد آخر في العالم.
لم يسع الرئيس حول أيٍّ من هذه القضايا المثيرة للجدل إلى بناء ائتلاف دولي داعم، أو حتى تفاهم مع شركائه. ويعرض أسلوبه “خذ كل شيء أو اترك كل شيء” القليل من عناصر القيادة التقليدية، كما يشكو منتقدوه.
ولخيبة أمل حلفائه الأوروبيين، ووفق ما يقوله السيد لافونت رابنيويل، فإن “أوروبا لا تريد الاضطرار إلى محاربة الولايات المتحدة”. ويضيف: “لكن من الواضح أن عليهم أن يدافعوا عن بعض سياساتهم المخالفة لسياسات الولايات المتحدة. أميركا أولاً تعني أحياناً أميركا وحدها”.
يقول البعض إن افتقار ترامب لشهية القيادة العالمية ترك المجال مفتوحاً أمام منافسي الولايات المتحدة. ويقول السيد بريمر: “إن أكبر أثر مفرد للرئيس على العالم هو الفرصة الاستثنائية التي وفرها للصين لتكسب النفوذ الاقتصادي” في العالم. ويضيف: “ما تزال الولايات المتحدة تفقد المصداقية منذ بعض الوقت؛ لقد انتزع ترامب ذلك وركض به”.
يلقى الدور المتقلص لواشنطن في العالم وتسامح ترامب مع الحكام المستبدين الترحيب من جانب آخرين غير الصين: فقد نال رئيس الفلبين، رودريغو ديتيرت، مباركة الرئيس الأميركي لتنفيذ حملة مميتة خارج دائرة القضاء ضد مهربي المخدرات المزعومين.
لم تعد لا يمكن الاستغناء عنها؟
لهذا الاتجاه على المدى الطويل تداعيات بعيدة المدى، كما تلاحظ زينيا ويكيت، رئيسة برنامج الولايات المتحدة والأميركيين في “تشاثام هاوس”، المؤسسة الفكرية اللندنية. وقد عنى التعقيد المتنامي لشؤون العالم -وسياسة الرئيس السابق باراك أوباما القائمة على مبدأ، القيادة من الخلف- كما وصفها أحد المسؤولين في إدارته، أن “أميركا كانت لاعباً ضرورياً، وإنما ليس كافياً” في الشؤون الدولية، كما تقول السيدة ويكيت.
وتتنبأ بأنه “مع نهاية رئاسة دونالد ترامب، قد ينتهي الأمر بالولايات المتحدة وقد أصبحت شريكاَ ضرورياً أيضاً، بينما تصعد دول أخرى”.
لم يتقاطع هذا الاتجاه فقط مع موقف الولايات المتحدة في العالم، بل ومع القوة الناعمة الغربية عموماً أيضاً. وتقول ويكيت: “لانتهاج ترامب تحقيق المصالح الأميركية مع استبعاد مصالح الآخرين، ثمة أثر طويل الأمد على أولئك الذين كانوا قد نظروا إلى الغرب كشيء تجب محاكاته”.
يقول ريتشارد وايك، الذي يجري مسوحات الرأي العام لصالح مركز أبحاث “بيو”، إن أسلوب ترامب القائم على “التحدث بشكل متهور” قد صدم الجماهير الأجنبية أيضاً. ويضيف: “ككل، يعد الرأي العام العالمي في السيد ترامب سلبياً جداً. الناس لا يحبون انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقيات والانخراطات الدولية ووضع حواجز بينها وبين الآخرين”.
ويلاحظ أن هذا السلوك لا يبدو وأنه يعكس القيم الأميركية. كما لا تعكسها أيضاً “رغبة ترامب التي لا تشبع في تبني الرجال الأقوياء الذين يفعلون ما يريدون بلا ضوابط ولا موازين ديمقراطية”، مثل فلاديمير بوتين، وشي جين بنغ، ورجب طيب أردوغان ورودريغو ديوتيرت، كما يقول كينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة “هيومان رايتس ووتش”.
ويبدي السيد روث قلقه من أن كلمات ترامب الدافئة عن هؤلاء القادة المستبدين “تقوض جهود حركة حقوق الإنسان لوصم هؤلاء الناس. إن نجاحنا يعتمد على وصمهم بالعار”.
مياه عاصفة -وإنما يمكن الملاحة فيها
سوف يكون من السهل أن يعكس رئيس أميركا التالي وجهة موقف ترامب من حقوق الإنسان، كما يقول روث. كما يمكن تغيير سياسات أخرى للإدارة الراهنة. وقد تفهمت الشعوب حول العالم أن دونالد ترامب ليس الولايات المتحدة.
وتقول ويكيت: “العجز في الثقة ليس مع أميركا، وإنما مع الرئيس ترامب”. كما أن الرؤساء السابقين حققوا العجائب لصورة أميركا الدولية. وقد أعربت نسبة 42 في المائة وحسب من الذين استجابوا لمسح مركز “بيو” الذي أجري إبان رئاسة جورج دبليو بوش عن وجهة نظر إيجابية من الولايات المتحدة؛ لكن ذلك الرقم ارتفع إلى 59 في المائة عندما أجرى المركز أول استطلاع له في حقبة أوباما.
وتقول ويكيت أن حلفاء الولايات المتحدة سوف يجدون “مياها عاصفة أمامهم في السنوات القليلة المقبلة… وسوف نجد من الصعب جداً التقدم معاً. لكن أساسيات العلاقة عبر الأطلسي قوية جداً؛ وهي لا تنهار”.
وتقول إن تلك العلاقة سوف تستديم، “فالشيء الذي لا يقتلك يجعلك أقوى”.

بيتر فورد

صحيفة الغد