ينعقد اليوم وغدا (29 – 30/1/2018) مؤتمر منتجع سوتشي على البحر الأسود، تقول موسكو إن الهدف منه المساهمة في حل القضية السورية، من خلال حوار بين “الشعوب السورية” كما يسميها الروس، لوضع دستور جديد للبلاد، ووقف العمليات العسكرية، والبدء بالعملية السياسية التي تتوقع موسكو منها إنهاء المأساة السورية، ولكن على طريقتها الخاصة، بالإبقاء على النظام الاستبدادي في دمشق، وعدم التطرّق أو مناقشة مصير رأس هذا النظام، لإبقاء بشار الأسد في السلطة حتى عام 2035، بحسب مسودة الدستور التي سبق أن قدمتها موسكو في أستانة، وذلك بعد أن جعل الروس وجوده فيها مسألةً محسومة، ليس باستطاعة أحد تحدّيها.
وترى موسكو أن استمرار المفاوضات والحل السياسي على أساس مرجعية مؤتمر جنيف لن يؤمن أهداف إيران وروسيا بإبقاء بشار الأسد في السلطة. وعليه، يجب العمل على إيجاد صيغة جديدة للحل السياسي في سورية. لذلك يأتي الإصرار الروسي على انعقاد مؤتمر سوتشي، وتقف وراء هذا الإصرار عدة أهداف، منها توهم بوتين بقدرته على الانفراد في فرض حل للقضية السورية، ومحاولة إيجاد مرجعية جديدة للحل السياسي في سورية من خلال نسف مسار مفاوضات جنيف، أو التشويش عليها على الأقل، لتمييع قرارات مجلس الأمن، والقرارات الأممية الأخرى التي تشكل المرجعية الأممية للحل في سورية، وبالتالي الالتفاف على القرارات التي تنص على تشكيل هيئة حكم انتقالية، لا يكون النظام مشاركاً فيها، وفي مقدمتها بيان جنيف لعام 2012 والقرار 2118 لعام 2113 والقرار 2254 لعام 2015.
ومن الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من وراء المؤتمر إظهار نفسها حريصة على التوصل إلى السلام في سورية، وتوسيع نفوذها في الملف السياسي، مستغلة التراجع الواضح لدور الولايات المتحدة والأطراف الدولية والإقليمية الأخرى في هذا الملف. كما تسعى موسكو عبر لعبها دور “صانع السلام” إلى تخفيف حدة الصورة الدموية التي تظهر بها أمام العالم جرّاء عمليات القتل الواسعة التي ترتكبها طائراتها في سورية، بدعوى محاربة الإرهاب.
تصب جميع الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من هذا المؤتمر في صالح موسكو وحليفها نظام الأسد، بدءاً من أجندة المؤتمر، وقائمة المدعوين لحضوره التي وصلت إلى نحو 1500 شخصية، والرسائل السياسية التي تريد روسيا إيصالها برعايتها هذا المؤتمر. فمعظم الجهات والشخصيات المدعوة للمؤتمر مرتبطة بروسيا وأجهزة المخابرات التابعة للنظام، بغرض تمييع المعارضة الحقيقية، وإضعاف دورها في التوصل إلى حل يتناسب مع تضحيات الشعب السوري.
وعلى الرغم من التهديدات التي وجهتها موسكو إلى المعارضة السورية فيما إذا رفضت الحضور، أو وضعت شروطاً مسبقة للمشاركة في المؤتمر بأنها ستكون خارج العملية السياسية، فقد قرّرت الهيئة العليا للمفاوضات، بأغلبية أعضائها، عدم الذهاب إلى المؤتمر لعدة أسباب، أهمها الغموض الذي يحيط بالمؤتمر، وعدم امتلاكه أجندةً واضحة للحل، والإصرار على بقاء مصير بشار الأسد خارج المحادثات التي ستجري داخل أروقة المؤتمر، إلى جانب اعتراض الهيئة على مكان انعقاد المؤتمر، ورعاية روسيا له، وقائمة المدعوين الذين وجهت إليهم روسيا دعوات للحضور.
وحتى تتواءم مخرجات مؤتمر سوتشي مع ما تشتهيه، فقد صاغت موسكو وثيقةً له تنص على ضرورة تشكيل جيش وطني يعمل بموجب الدستور، وأن تلتزم أجهزة الأمن بالقانون وحقوق الإنسان، وتوفير تمثيل عادل لسلطات الإدارات الذاتية. ومن المقرّر، بحسب التصور الروسي، أن يؤدي مؤتمر سوتشي إلى تشكيل ثلاث لجان: لجنة رئاسية للمؤتمر، ولجنة خاصة بالإصلاحات الدستورية، ولجنة للانتخابات وتسجيل المقترعين. كما أن من المحتمل أن تجري في مؤتمر سوتشي مناقشة إقامة “حكومة وحدة وطنية”، تجمع النظام والمعارضة، وهو مطلب روسي، دأبت موسكو على جعله أمراً واقعاً، بحيث يبقى الأسد على رأس السلطة، أي التطبيع مع النظام، وطي صفحاته السوداء الممتلئة بالضحايا طوال السنوات الماضية، وإعادة إنتاج الاستبداد في سورية، بعد تطعيم بعض مؤسساته بمظاهر احترام حقوق الإنسان، والمحافظة على الجذر الاستبدادي في صورته الأصلية، والإبقاء على الذهنية الاستبدادية لإدارة هذه المؤسسات، وفي مقدمتها الجيش والأمن.
في المقابل، تسعى أطراف أخرى، في مقدمتها الولايات المتحدة، إلى منع موسكو من استثمار مخرجات مؤتمر سوتشي، لتظهر أمام الرأي العام الدولي بمظهر المنتصر واللاعب الأساسي في الملف السوري، وإشعارها بأن كل ما حققته في سورية يبقى هشاً في ظل التعقيدات التي تتسم بها القضية السورية، فقد طرح وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، خلال جولة المحادثات الأممية في مقر الأمم المتحدة في فيينا، أخيرا، وثيقة خماسيةً، أعدها وزراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن في مباحثاتٍ تمت في باريس في 23 من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، على هامش مؤتمر يتعلق بمنع انتشار السلاح الكيميائي واستعماله، خصوصاً في سورية. وتضمنت الوثيقة الخماسية مبادئ الحل السياسي السوري، حيث أكدت على ضرورة إجراء إصلاحات دستورية، وتحديد صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والإدارات المحلية، تمهيداً لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، بإشراف الأمم المتحدة، إضافة إلى وجود ربط واضح بين مساهمة الدول الغربية بإعادة إعمار سورية وتحقيق الانتقال السياسي.
وبحسب وكالة الأناضول، تناقش الوثيقة المنهجية التي ستكون عليها المفاوضات في جنيف، استناداً إلى قرار مجلس الأمن 2254، مع التركيز، بشكل مباشر وفوري، على مناقشة
إصلاح الدستور، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، كما طالبت بخروج المليشيات الأجنبية من سورية، والشروع في عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، ووقف القصف، وإيصال المساعدات.
وأوصت الوثيقة المبعوث الخاص للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، أن يعمل على تركيز جهود الأطراف على مضمون الدستور المعدل، والوسائل العملية للانتخابات التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وإيجاد بيئة آمنة ومحايدة في سورية، يمكن أن تجري فيها هذه الانتخابات. وجاء في الوثيقة أن الرئيس، المعدلة صلاحياته، يجب أن يكون محققاً لتوازن كل القوى، وضامناً استقلال المؤسسات الحكومية والمركزية، أما الحكومة فيرأسها رئيس وزراء، مع منحه صلاحيات موسعة، وصلاحيات للحكومات المحلية، كما أن البرلمان سيتكون من مجلسين، يكون ممثلاً في مجلسه الثاني من كل الأقاليم، للتأثير على عملية صنع القرار في الحكومة المركزية، من دون وجود سلطة رئاسية لحل البرلمان. كما تناولت الوثيقة أيضاً “إصلاح أجهزة الأمن”، بحيث تخضع للسلطة المدنية وإنهاء الحصانة عنها، إضافة إلى عملها في شكل حيادي مع خضوعها للمساءلة والمحاسبة.
وتبدو هذه الوثيقة متمايزة عما تطرحه موسكو في مؤتمر سوتشي، إلا أنها لم تشر إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية، ولا تتحدث عن تنحي بشار الأسد عن السلطة، والاكتفاء بتقليص صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الوزراء، وتوسيع صلاحيات الحكومات المحلية على أساس اللامركزية، وتشكيل برلمان ذي مجلسين، على غرار الموجود في الأنظمة البرلمانية ومنح دور أكبر للأمم المتحدة، للإشراف على تطبيق الحل السياسي، خصوصا فيما يتعلق بالانتخابات، وتشكيل هيئة انتخابية محايدة ومتوازنة، والسماح للاجئين والنازحين بالمشاركة في الانتخابات، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254.
يبدو أن الولايات المتحدة تريد أن تظهر للأطراف الفاعلة في القضية السورية أن استراتيجيتها في سورية ستشهد في الفترة المقبلة انعطافة مفصلية مهمة تجاه فرض حل سياسي للملف السوري، وأن هناك تبدلاً حصل في أولوياتها في المنطقة، بعد الانتهاء من محاربة “داعش” التي كانت تتقدم أولوياتها، وتمكّنها من فرض وجود عسكري لها على المدى المتوسط في منطقةٍ تتمتع بأهمية استراتيجية بالغة، لاحتوائها على مصادر الطاقة والثروات الأخرى، يجعلها لاعباً أساسياً في أية رؤية للحل السياسي مستقبلاً، ولتحجيم الدور الروسي، وكذا الإيراني المتزايد على وجه التحديد، والذي يثير حفيظة الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل.
وسام الدين عكلة
صحيفة العربي الجديد