بدأت صناعة النفط والغاز في الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً تقلب أسواق النفط العالمية رأساً على عقب. في البداية، أدى الهبوط الحاد في واردات الولايات المتحدة من النفط الخام إلى تقلص أكبر سوق كان منتجون مثل منظمة «أوبك» يعتمدون عليها لسنوات. والآن، فإن ارتفاع الصادرات الأميركية، التي كانت في معظمها محظورة من الكونغرس حتى تم رفع هذا الحظر منذ نحو سنتين فقط، يشكل تحدياً لـ «أوبك» في المنطقة الأخيرة التي تهمين عليها، وهي آسيا.
وارتفعت شحنات النفط الأميركية إلى الصين لتخلق تجارة بين أكبر قوتين في العالم لم تكن موجودة حتى 2016، وتساعد واشنطن في جهودها لتقليص العجز التجاري الضخم مع بكين. وانعكس هذا التحول في الأرقام التي نشرت في الأيام الماضية، وأظهرت أن الولايات المتحدة تنتج الآن كميات من النفط الخام تتجاوز إنتاج السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، ما يرجح أن تتفوق أميركا على روسيا لتحل محلها في المركز الأول في إنتاج النفط على مستوى العالم بنهاية السنة. وشكل هذا النمو مفاجأة حتى لمسؤولي إدارة معلومات الطاقة الأميركية، التي رفعت الأسبوع الماضي توقعاتها لإنتاج الولايات المتحدة من النفط الخام هذه السنة إلى 10.59 مليون برميل يومياً، بزيادة 300 ألف برميل عن توقعات سابقة لها قبل أسبوع فقط.
وعندما بدأت الولايات المتحدة تصدر النفط الخام في 2016، اتجهت أولى الشحنات إلى كوريا الجنوبية واليابان وهما شركاء واشنطن في اتفاق التجارة الحرة. وتوقع قليلون أن تصبح الصين مشترياً رئيساً.
وتظهر بيانات من منصة «تومسون رويترز آيكون»، أن شحنات الخام الأميركي إلى الصين بدأت من الصفر قبل 2016 لتصل إلى مستوى قياسي بلغ 400 ألف برميل يومياً في كانون الثاني (يناير)، بقيمة نحو بليون دولار. وإضافة إلى ذلك، تسلمت الصين نصف مليون طن من الغاز الطبيعي المسال الأميركي بقيمة نحو 300 مليون دولار في كانون الثاني. وستساهم الإمدادات الأميركية في خفض الفائض التجاري الصيني الضخم مع الولايات المتحدة، وربما في دحض ادعاءات ترامب بأن بكين تقوم بممارسات تجارية غير عادلة. وقال الرئيس التنفيذي والشريك المؤسس لـ «ميركيوريا لتجارة السلع الأولية» ماركو دوناند، «في ظل إدارة ترامب، هناك ضغوط كبيرة على الصين لموازنة الحسابات مع الولايات المتحدة… سيساهم شراء النفط الأميركي بوضوح في تحقيق هذا الهدف وتقليص الاختلال».
ومع ارتفاع صادرات الطاقة، تقلص العجز التجاري الصيني مع الولايات المتحدة في كانون الثاني إلى 21.895 بليون دولار من 25.55 بليون في كانون الأول (ديسمبر)، بحسب أرقام صينية رسمية نُشرت يوم الخميس.
ولا تزال مبيعات الطاقة الأميركية إلى الصين متواضعة مقارنة بكميات من النفط بقيمة 9.7 بليون دولار شحنتها منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) إلى الصين في كانون الثاني. لكنها استحوذت بالفعل على نصيب من سوق تهيمن عليه دول مثل السعودية وروسيا، مع تهديد بمزيد من المنافسة في المستقبل.
وقال مدير مصفاة لدى شركة «سينوبك» الصينية الكبيرة للنفط، طالباً عدم نشر اسمه لأنه ليس مصرح له بالتحدث إلى وسائل الإعلام، «نرى الخام الأميركي مكملاً لقاعدتنا الكبيرة من الخام» من الشرق الأوسط وروسيا. وأضاف أن «سينوبك» تتطلع إلى طلب شراء مزيد من الخام الأميركي هذا العام.
وأظهرت بيانات رسمية أن واردات الصين من الخام ارتفعت إلى مستوى قياسي بلغ 9.57 مليون برميل يومياً في كانون الثاني.
ومن جهة أخرى، انخفضت واردات الولايات المتحدة من النفط الخام إلى أقل من أربعة ملايين يومياً، في مقابل مستوى قياسي مرتفع بلغ 12.5 مليون برميل يومياً في 2005. وبناء على متوسط كميات كانون الأول/ كانون الثاني، تُقدر مبيعات الولايات المتحدة من النفط والغاز إلى الصين بنحو عشرة بلايين دولار سنوياً. وباحتساب الصادرات إلى اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، فإن هذا الرقم يزيد إلى المثلين.
وكان من الممكن أن تكون الصادرات الأميركية أكبر من ذلك لولا قيود البنية التحتية، فلا يوجد ميناء في الولايات المتحدة يستطيع استقبال ناقلات النفط العملاقة وهي أكبر ناقلات نفطية في العالم. ولمعالجة هذا القصور، يتم توسيع أحد أكبر المنشآت على خليج المكسيك، أي «لويزيانا أوفشور أويل بورت سيرفيسيز»، بهدف مناولة تلك الناقلات في وقت قريب.
وبالنسبة للمشترين الصينيين، فإن ما يجذبهم للخام الأميركي في شكل رئيس هو السعر. وبفضل طفرة النفط الصخري، فإن الخام الأميركي أقل سعراً من خامات من أرجاء أخرى. وعند نحو 60.50 دولار للبرميل، فإن الخام الأميركي حالياً أقل بنحو أربعة دولارات من خام القياس العالمي مزيج «برنت»، الذي يتم تسعير معظم الخامات الأخرى بناء عليه.
وبالنسبة لمُصدرين كبار للنفط مثل «أوبك» وروسيا قاموا بتقليص إنتاجهم منذ 2017 في محاولة لدعم الأسعار، فإن تلك التدفقات الجديدة من النفط تشكل خسارة كبيرة في الحصة السوقية. وقال دوناند: «تقبلت أوبك وروسيا أن الولايات المتحدة ستصبح منتجاً كبيراً نظراً لأنهما تريدان ببساطة أن تجلبا السعر عند المستويات الحالية». ومنذ بداية خفض الإنتاج الذي قادته «أوبك» في كانون الثاني 2017، ارتفعت أسعار النفط 20 في المئة، على رغم تعرضها لضغوط مجدداً في شباط (فبراير)، لأسباب على رأسها ارتفاع الإنتاج في الولايات المتحدة. وربما يغير سيل النفط الأميركي طريقة تسعير الخام. فمعظم منتجي «أوبك» يبيعون الخام بموجب عقود طويلة الأجل يتم تسعيرها شهرياً، وفي بعض الأحيان بأثر رجعي.
وعلى العكس، يصدر المنتجون الأميركيون الخام بناء على كلفة الشحن وفوارق السعر بين الخام الأميركي وخامات أخرى. ما أدى إلى ارتفاع كبير في حجم تداول العقود الآجلة للخام الأميركي، المعروف بغرب تكساس الوسيط، وهو ما جعل تداول العقود الآجلة لخامات أخرى مثل «برنت» أو دبي أقل كثيراً.
وعلى رغم كل التحديات لنظام النفط التقليدي، يظهر المنتجون التقليديون شجاعة في المواجهة. وقال الرئيس التنفيذي لـ «أرامكو» السعودية النفطية الحكومية العملاقة أمين الناصر: «ليس لدينا أي قلق على الإطلاق من زيادة الصادرات الأميركية. صدقيتنا كمورد لا تضاهى، ولدينا أكبر قاعدة من الزبائن باتفاقات مبيعات طويلة الأجل».
صحيفة الحياة اللندنية