ترى مصادر أميركية مراقبة أن المواجهة الإسرائيلية السورية التي اندلعت فجر السبت تعبر عن حقبة راهنة انهارت فيها جميع التفاهمات التي قامت بين العواصم المعنية بشأن سوريا منذ بدء الصراع عام 2011. ويضيف هؤلاء أن الحدث يمثل حالة انفجار عرضي قد يقود إلى انفجار واسع إذا ما عجزت القوى الدولية والإقليمية عن اجتراح خرائط طرق، ولو مؤقتة، للحد من تدهور الوضع العسكري بالشكل المتصاعد الخطير في الأسابيع الأخيرة.
ويعتبر دبلوماسيون أميركيون سابقون أن إعلان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون قبل أسابيع عن استراتيجية أميركية جديدة في سوريا وعن بقاء القوات الأميركية داخل هذا البلد “من أجل مواصلة الجهود لمكافحة داعش، قد أخلّ بالتوازنات التي أرساها اتفاق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الأميركي باراك أوباما في سبتمبر 2015 قبل ساعات من بدء الانخراط العسكري الروسي المباشر في سوريا”.
ويضيف هؤلاء أن واشنطن تأتي لتفرض نفسها شريكاً كبيرا داخل الميدان السوري، سواء من خلال تواجدها العسكري المباشر شرق الفرات، بما في ذلك إقامة 8 قواعد عسكرية لها فوق الأراضي السورية، أو من خلال دعمها لعملية جنيف كمدخل وحيد لأي حلّ سياسي للأزمة السورية مصطحبة في ذلك كافة شركائها في الاتحاد الأوروبي.
الموقف الأميركي
كانت وزارة الخارجية الأميركية قد أعربت عقب الغارات الإسرائيلية، السبت، عن “دعمها القوي لحق إسرائيل السيادي في الدفاع عن نفسها”. جاء ذلك في بيان صادر عن متحدثة الخارجية الأميركية هيذر ناورت، حول توتر الأجواء على الحدود الإسرائيلية السورية.
وأشار البيان إلى أن “مشاريع إيران في نشر قوتها وسيطرتها تلقي بجميع الشعوب من اليمن إلى لبنان في الخطر”، مشددا على أن “الولايات المتحدة ستواصل التصدي للمساعي الخبيثة لإيران وموقفها الذي يهدد السلام والاستقرار في المنطقة”. وينقل عن مقربين من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن تشغيل الدفاعات السورية ضد الطائرات الإسرائيلية يفصح عن جانبين مهمين. الأول امتلاك دمشق لمنظومة دفاع حديثة أو محدّثة باستطاعتها إسقاط مقاتلة أميركية من طراز حديث (أف 16).
والثاني حصول دمشق على ضوء أخضر روسي كان ممنوعاً قبل ذلك باستخدام منظومات الدفاع ضد المقاتلات الإسرائيلية. ويضيف هؤلاء أن البنتاغون ينظر إلى الحدث بصفته تفصيلا ميدانيا تحت السيطرة، لكنه يدقق مع المؤسسات الدبلوماسية والأمنية الأميركية في معانيه ورسائله السياسية.
وتؤكد المصادر أن واشنطن ليست في الوقت الحاضر بوارد تشجيع اندلاع حرب كبرى على الحدود الشمالية لإسرائيل، لكن نفس المصادر تلفت إلى أن هذا الاحتمال يبقى وارداً وقد يكون ضروريا في مراحل لاحقة.
وتقول مصادر غربية مراقبة في إسرائيل إن الخطاب الحالي للحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو متمسك بعدم الرغبة في خوض حرب شاملة قد تندلع على جبهتي سوريا ولبنان، وأن نتنياهو أجرى في الساعات الأخيرة اتصالات حثيثة مع موسكو وواشنطن في هذا الصدد. غير أن هذه المصادر تقول إن غرف العمليات الإسرائيلية تأخذ في الاعتبار احتمال نشوب هذه الحرب، خصوصاً وأن اختراق طائرة إيرانية مسيّرة للأجواء الإسرائيلية هدفه على ما يبدو جرّ إسرائيل إلى حرب تجري وفق توقيت طهران وليس وفق توقيت تل أبيب.
وصعدت إسرائيل، الأحد، تهديداتها ضد إيران، ما يعزز المخاوف من المزيد من التصعيد بين البلدين فوق الأراضي السورية وربما اللبنانية أيضاً. وأثنى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأحد، على الغارات الإسرائيلية السبت، مؤكدا أنها شكلت “ضربة قوية للقوات الإيرانية والسورية”.
وقال نتنياهو في مستهل الاجتماع الأسبوعي لحكومته “وجهنا أمس (السبت) ضربة قوية للقوات الإيرانية والسورية” في إشارة إلى الغارات التي شنها الجيش الإسرائيلي داخل الأراضي السورية. وأضاف “أوضحنا للجميع أن قواعد الاشتباك الخاصة بنا لن تتغير بأي طريقة. سنواصل ضرب كل من يحاول ضربنا”.
وتعترف مصادر إسرائيلية مراقبة بأن عملية وظروف وتفاصيل إسقاط المقاتلة الإسرائيلية قد فاجأ جنرالات إسرائيل، وأن عمليات الإغارة الانتقامية على 12 “هدفا كبيراً”، منها 4 إيرانية، داخل سوريا، جاء للتخفيف من الارتباك الذي أصاب القيادة العسكرية الإسرائيلية.
وتضيف المصادر أن حديث نتنياهو عن إنجازات مهمة قد تحققت من خلال هذه الغارات هدفه تكثيف الدخان حول الحدث الذي داهم إسرائيل، وكسب الوقت لإعادة التموضع وفق هذا المعطى الجديد واستكشاف أسبابه لدى روسيا خصوصاً. وعلم في هذا الصدد أن الجيش الإسرائيلي قد قرر تعزيز دفاعاته الجوية على الحدود الشمالية، حسب القناة التلفزيونية الإسرائيلية “ريشت 14”.
الدور الروسي
تكشف مراجع روسية مطلعة أن الرد السوري على الغارات الإسرائيلية استفاد من غض طرف روسي يسقط تفاهمات بين نتنياهو وبوتين تم التأسيس عليها قبل مباشرة موسكو عملياتها في سوريا. وتقول هذه المراجع إن احترام تلك التفاهمات بات يحتاج إلى تحديثات جديدة في ضوء التطورات العسكرية والميدانية والجيوستراتيحية التي استجدت من خلال الحضور العسكري الأميركي في سوريا.
وتضيف المراجع أن تفاهمات موسكو- تل أبيب السابقة كانت تتأسس على قاعدة احتكار روسيا لميدان العمل العسكري في سوريا مع إعطاء هامش مناورة لإسرائيل في كل مرة تشعر الأخيرة بأن أنشطة معينة في سوريا تهدد أمنها الاستراتيجي، فيما قوّضت التطورات الجديدة من الوظيفة الروسية، خصوصاً أن هذا الحضور الأميركي لا يتواكب مع ورشة للتفاهم مع موسكو حول مستقبل البلدين في الداخل السوري.
لب الخلاف الحاصل حاليا بين الغرب وروسيا متمحور حول مستقبل الدور الإيراني في المنطقة ووظيفة روسيا في الضغط باتجاه ذلك
ويلفت مراقبون للشؤون الروسية إلى أن المعلومات التي وصلت للكرملين تفيد بأن واشنطن كانت وراء الهجوم الذي شنته طائرات مسيّرة على قاعدة حميميم في شهير يناير الماضي وأن واشنطن أيضا وراء إسقاط المقاتلة الروسية بصاروخ أرض جو فوق إدلب الأسبوع الماضي.
وعلى الرغم من ضبابية هذه المعلومات وعدم توجيه موسكو بشكل رسمي أصابع الاتهام إلى واشنطن، غير أن “الانقلاب” الذي أحدثه إسقاط الدفاعات الجوية لدمشق للمقاتلة الإسرائيلية يرسل رسالة روسية انتقامية في هذا الصدد.
وقد دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو في اتصال هاتفي لتجنب خطوات قد تسفر عن تصعيد الوضع في المنطقة.
ويرى محللون عسكريون قريبون من قيادة الحلف الأطلسي في بروكسل أن القراءة الأولية تفيد بأن روسيا كانت تعلم بعملية إطلاق طائرة إيرانية مسيّرة صوب إسرائيل، خصوصا وأنها أطلقت من مطار تي فور الذي يخضع لمنطقة العمليات العسكرية الروسية، وأن موسكو كانت تتوقع رد فعل إسرائيلي انتقامي، وأنها رفعت الفيتو عن استخدام المنظومات الدفاعية ضد المقاتلات الإسرائيلية.
ويضيف هؤلاء أن روسيا أعطت بذلك إشارات إلى واشنطن وتل أبيب عن تواطئها الكامل مع دمشق وطهران واختيارها الانخراط المطلق داخل هذا التحالف في غياب أيّ أعراض لتعاون أميركي روسي ينهي ضبابية الموقف في حدود المصالح بين البلدين داخل سوريا.
وينقل عن خبراء في الشؤون الإيرانية أن طهران تراقب بقلق تصاعد الموقف الدولي ضد النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا سيما في سوريا، وأنها باتت تعتبر أن لبّ الخلاف الحاصل حاليا بين الغرب وروسيا متمحور حول مستقبل الدور الإيراني في المنطقة ووظيفة روسيا في الضغط باتجاه ذلك.
ويضيف هؤلاء أن طهران تخشى من أن أي اتفاق محتمل بين واشنطن وموسكو بشأن سوريا سيأتي على حسابها. وتلحظ القيادة الإيرانية أن التصريحات التي صدرت مؤخراً على لسان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان حول ضرورة خروج كافة القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها من سوريا يمثل الموقف الغربي الحقيقي حتى ولو كان هذا التصريح قد شمل القوات التركية أيضا.
وقد اعتبر أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني أن إسقاط الدفاعات الجوية السورية لمقاتلة إسرائيلية السبت يؤكد أن “أي خطأ ترتكبه إسرائيل في المنطقة لن يبقى من دون رد”.
ونقل عن شمخاني القول، الأحد، إن “إسقاط الطائرة الإسرائيلية من قبل المضادات السورية غيّر معادلة عدم توازن القوى في المنطقة”.
وكانت طهران قد سخرت من الاتهامات الإسرائيلية لها بتوجيه طائرة مسيّرة دون طيار نحو أجوائها، وأن غاراتها على الأراضي السورية جاءت ردا على ذلك، وقالت إن هذه الاتهامات “تثير الضحك”.
وينقل عن مصادر قريبة من وزارة الخارجية الإيرانية أن طهران لا يمكنها أن تسمح بخسارة نفوذها في سوريا الذي سيقوّض حتما نفوذها في العراق ولبنان وينهي حلمها بشق خط مفتوح بين إيران والبحر المتوسط، وأن نشوب حرب تكون قواعدها في سوريا، ولبنان تكون طرفا فيها، قد تكون مصلحة إيرانية على طاولة التسويات المتعلقة بالمنطقة.
ويجمع المتخصصون في الشؤون الاستراتيجية على اعتبار مواجهات السبت مفترقاً هاماً ستتحدد وفقه مجموعة من المواقف والخطط والاستراتيجيات لكافة فرقاء الصراع السوري.
صحيفة العرب اللندنية