تحولت قضية الصراع على منبج السورية إلى محطة صراع محلية وإقليمية ودولية، منذ سيطرة قوات سورية الديمقراطية عام 2016 على المدينة بعد معركة مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) دامت عدة أشهر.
فتركيا -التي تسعى لمنع إقامة كيان كردي شمال شرقي سوريا- ترى أن بقاء هذه المدينة تحت سيطرة هذه القوات يشكل خطرا على أمنها القومي، نظرا لأنها تُبقي إمكانية وصل الكانتونات الكردية في شرقي الفرات بمنطقة عفرين، عبر محور الشيخ عيسى/ منبج/ أعزاز/ تل رفعت.
وعليه؛ فإن أنقرة تسعى إلى إخراج المدينة من سيطرة الكرد، حيث تقول إن الولايات المتحدة تعهدت لها -في وقت سابق- بإخراج هذه القوات منها، وهو ما لم يتم حتى الآن.
امتحان علاقة الطرفين
أمران أساسيان وقفا أمام تركيا لتحقيق هدفها المعلن في منبج، أي إخراجها من سيطرة القوات الكردية. الأول: أن الولايات المتحدة نشرت قوات لها في المدينة ومحيطها، وهو ما صعّب مهمة التدخل العسكري التركي نظرا إلى أن مثل هذا الأمر سيؤدي إلى صدام مباشر مع القوات الأميركية، وهو ما لا ترغب فيه تركيا.
والثاني: أنه في ظل احتمال المواجهة بين قوات درع الفرات وقوات سوريا الديمقراطية في منبج؛ وافقت الأخيرة على تسليم مجموعة من القرى -تقع شمال غربي منبج- إلى قوات النظام السوري بحماية روسية.
“مع تواصل العملية العسكرية التركية في عفرين تحول الخلاف التركي/الأميركي على منبج إلى شكل من أشكال الاشتباك الدبلوماسي والسياسي والإعلامي بين البلدين، فتركيا تطالب الولايات المتحدة بسحب قواتها منها فيما ترد واشنطن بالرفض”
وأصبحت هذه القرى بمثابة شريط عسكري فاصل بين قوات درع الفرات وقوات سوريا الديمقراطية، وبالتالي فإن أي تحرك عسكري تركي سيصطدم بالقوات النظامية السورية، وهو ما لا ترغب فيه تركيا أيضا.
اليوم، ومع تواصل العملية العسكرية التركية في عفرين تحول الخلاف التركي/الأميركي على منبج إلى شكل من أشكال الاشتباك الدبلوماسي والسياسي والإعلامي بين البلدين، فتركيا تطالب الولايات المتحدة بسحب قواتها منها فيما ترد واشنطن بالرفض.
ولعل التصريحات المتناقضة لمسؤولي البلدين -عقب الاتصال الهاتفي الأخير بين الرئيسين رجب طيب أردوغانودونالد ترمب (24 يناير/كانون الثاني الماضي)، والذي كان يؤمل منه إزالة الخلافات- تكشف عن عمق هذا الخلاف واحتمال تفاقمه في ظل الأجندة المختلفة للجانبين.
إذ يقول أردوغان إن القوات التركية ستتجه -بعد عفرين- إلى منبج ثم تواصل تمددها حتى الحدود العراقية، وترد إدارة ترمب عليه بالقول إن عملية عفرين يجب أن تكون محدودة وألا تطول، وأن القوات الأميركية لن تنسحب من منبج.
وهكذا يشتد الخلاف بينهما في ظل غياب الثقة وتراكم المشكلات والخلافات، حيث باتت تركيا ترى أن اللغة الدبلوماسية الأميركية -التي تحاول التوفيق بين العلاقة التاريخية مع أنقرة والحليف الكردي الجديد عبر لعبة التوازنات- مجرد أسلوب دبلوماسي للتهرب من المطالب التركية، وأن مثل هذا الأسلوب لم يعد ينطلي عليها.
وعليه؛ فإن أنقرة باتت تطالب بأعمال حقيقية، ولاسيما فيما يتعلق بوقف الدعم العسكري للقوات الكردية في سوريا، فيما لا ترفض واشنطن هذه المطالب التركية. ومن هنا؛ فإن خطر الصدام في منبج قد يصبح واقعا، ما لم تُنتج الجهود الدبلوماسية والسياسية بين الجانبين تفاهمات تُفرض على الميدان.
ولعل ما يزيد معاناة تركيا بهذا الخصوص، هو أنها تحس بأنها أمام إستراتيجيتين متناقضتين لواشنطن: إستراتيجية سياسية تبحث عن تفاهمات ممكنة، وأخرى ميدانية جاهزة للصدام، وهو ما يجعل من مستقبل مدينة منبج امتحانا للعلاقة بين البلدين.
انتظار حسم عفرين
من الواضح، أن عملية منبج تبدو مرتبطة -إلى حد كبير- بمصير العملية العسكرية التركية في عفرين، وفي انتظار نتيجة هذه المعركة ثمة سؤال أساسي يطرح نفسه هنا، وهو: هل بات الصدام بين أنقرة وواشنطن في منبج واقعا فعلا؟
تقول صفحات العلاقة التاريخية بينهما أن وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر اجتمع برئيس الوزراء التركي الراحل بولند أجاويد عشية العملية العسكرية التركية في شمال قبرص عام 1974، وخرج حينها بقناعة تفيد بأن تركيا ستقوم بهذه العملية، علما بأن أجاويد رفض إخباره بذلك.
ولعل ما ولّد هذه القناعة لدى كيسنجر هو العلاقات المتوترة حينها بين الجانبين، وهي تشبه ما هي عليها الآن من توتر وغياب للثقة وتراكم للخلافات إلى حد التهديد بإجراءات متبادلة. ومع أن الظروف مختلفة تماما كما هي القضية أيضا، فإن الحساسية القومية التركية من قضية الأمن القومي التركي عالية جدا.
“بينما ترى الولايات المتحدة أن إستراتيجيتها تجاه الشرق الأوسط وإيران وروسيا باتت في تناقض مع أولويات تركيا، وأن على الحليف التركي تدوير خياراته لصالح هذه الإستراتيجية؛ فإن أنقرة تعتقد أن واشنطن تخلت عن ثوابت العلاقة التاريخية بين البلدين، وبالتالي فإن تركيا لن تتهاون في قضايا أمنها القومي”
وما يزيد هذه الحساسية هو وجود رجل مثل أردوغان له مشروعه الخاص، حيث يرى أن التطورات الجارية في المنطقة والعالم تتيح لتركيا تحديد خياراتها السياسية بعيدا عن التبعية لأميركا، كما كانت خلال العقود التي سبقت حكم حزب العدالة والتنمية التركي.
وبينما ترى الولايات المتحدة أن إستراتيجيتها تجاه الشرق الأوسط وإيران وروسيا باتت في تناقض مع أولويات تركيا، وأن على الحليف التركي تدوير خياراته لصالح هذه الإستراتيجية؛ فإن أنقرة تعتقد أن واشنطن تخلت عن ثوابت العلاقة التاريخية بين البلدين، وبالتالي فإن تركيا لن تتهاون في قضايا أمنها القومي.
والثابت هنا، هو أن الإدارة الأميركية لا تريد الدخول في حرب أو صدام مباشر مع تركيا في سوريا أو خارجها، وهي في سبيل ذلك تحاول تدوير الخلافات معها دون التخلي عن حليفها الكردي السوري، وعليه فهي تتبع إستراتيجية تقوم سياسيا على منع الصدام بتفعيل العمل الدبلوماسي.
أما ميدانيا؛ فإن واشنطن تترك الأمر لقياداتها العسكرية في الميدان، إذ قد تختلف الإستراتيجية المتبعة من منطقة إلى أخرى في سوريا، فمثلا نجد أنها تختلف في شرقي الفرات عن عفرين، وفي الأخيرة عن التنف، وفي التنف عن درعا.
وكأننا أمام تناقض بين الميدان والسياسة، وحتى بين مناطق الميدان نفسه تبعا لخصوصية كل منطقة وعوامل الصراع التي تتحكم فيها، ولعل هذا ما يفسر الصمت الأميركي عن العملية العسكرية التركية المتواصلة في عفرين، في حين تعمل الولايات المتحدة على حماية باقي المناطق الكردية في شمال سوريا وشرقها.
لكن رغم ذلك؛ فإن ما يجري في عفرين يحظى باهتمام أميركي، انطلاقا من أنها تدخل في إطار لعبة الصراع على مناطق النفوذ في سوريا، وربما تشعر واشنطن في العمق بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أراد توريط تركيا في هذه العملية، كي تتحول لاحقا إلى كرة متدحرجة ضد النفوذ الأميركي بسوريا.
ولذلك؛ فإن الحذر الأميركي بشأن عفرين قد لا يبقى على حاله إذا تطورت العملية التركية هناك، وربما ترى واشنطن أن من المهم استنزاف تركيا في عفرين حاليا بتقديم المزيد من الدعم لقوات سوريا الديمقراطية، والتغاضي عن نقل هذه الأسلحة إلى عفرين ما دام مثل هذا الاستنزاف قد يؤخر معركة منبج.
لكن مثل هذا الاعتقاد قد يخالف توقعات البعض بأن تبدأ تركيا معركة منبج بشكل مستقل، في إطار استكمال عملية درع الفرات التي تقول أنقرة إنها لم تحقق أهدافها كاملة، في إشارة إلى منبج وتل رفعت ومطار منغ.
تقاطعات واحتمالات
في انتظار نتائج معركة عفرين؛ فإن الحرب الكلامية بين واشنطن وأنقرة تبدو مرشحة للمزيد من التصعيد الإعلامي والسياسي، ومع أن مصالح أنقرة تتقاطع في نقاط كثيرة مع الإستراتيجية الأميركية في سوريا فإن الحساسية التركية المفرطة من الصعود الكردي القومي، والخوف من إقامة كيان على حدودها الجنوبية؛ يدفعانها إلى جعل هذا الأمر أولوية.
“وضعت تركيا المطالبة بتحديد مصير مدينة منبج في إطار رؤيتها للانتقال إلى الحل السياسي للأزمة السورية، وهي رؤية تقوم على إخراج هذه المنطقة من سيطرة الكرد، حيث يبدو المشهد العام بخصوص مستقبل منبج وكأنه أمام مجموعة من الخيارات”
وعليه؛ فقد وضعت المطالبة بتحديد مصير مدينة منبج في إطار رؤيتها للانتقال إلى الحل السياسي للأزمة السورية، وهي رؤية تقوم على إخراج هذه المنطقة من سيطرة الكرد، حيث يبدو المشهد العام بخصوص مستقبل منبج وكأنه أمام مجموعة من الخيارات، من أهما:
1- مواصلة أنقرة الضغط الدبلوماسي على واشنطن، وربما الانتقال خلال الفترة القريبة المقبلة إلى التسخين العسكري في منبج بغية إجبارها على إخراج القوات الكردية من المدينة، وتسليم المدينة إلى قوات درع الفرات التركية.
2- أن تركيا قد تجد نفسها أمام مشاريع أميركية للتفاهم بشأن مستقبل شمال سوريا، ولعل الطرح الذي قدمه وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بإقامة منطقة آمنة بعمق 30 كم في شمال سوريا، قد يجد نفسه فوق الطاولة مع جولة تيلرسون في المنطقة. فقد كان ذلك مطلبا لتركيا، وسيحقق لها فوائد إستراتيجية تتعلق بالأمن القومي واللاجئين.
3- إذا تعذر ما سبق، فقد يصار إلى خيار الدفع عبر روسيا للتوصل إلى تفاهم يسمح بوضع المدينة تحت سيطرة القوات السورية النظامية، تكرارا للسيناريو الذي حصل في الشريط الغربي الشمالي للمدينة، إذ إن ما يهم تركيا هو إخراج القوات الكردية من المدينة.
4- إذا تعذرت السيناريوهات السابقة، فإن الخيار العسكري يبقى قائما رغم خطورته، ويبدو أنه يتوقف على تحقيق انتصار عسكري في عفرين كما قلنا، إذ إن مثل هذا الانتصار سيعطي قوة دفع عسكرية كبيرة لتركيا لتوسيع مناطق السيطرة والنفوذ في شمال سوريا، في إطار التطلع إلى المزيد من الدور الإقليمي في الأزمة السورية.
وفي الختام، من الواضح أن الحركة التركية تنصبّ في اتجاه إنتاج تفاهمات سياسية مع الولايات المتحدة بشأن مصير منبج، مع التلويح الدائم بالخيار العسكري؛ وهو ما يجعل من مصير هذه المدينة امتحانا فعليا للعلاقة التركية/الأميركية في المرحلة المقبلة.
خورشيد دلي
الجزيرة