رسائل ترسانة بوتين من الغوطة إلى واشنطن

رسائل ترسانة بوتين من الغوطة إلى واشنطن

يبدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حنينه إلى حقبة الاتحاد السوفياتي، متمنيا لو امتلك القدرة على تغيير مسار التاريخ والحيلولة دون انهياره، وكانت تلك إحدى رسائل كثيرة إلى الولايات المتحدة والغرب في علاقة بموقع روسيا والصراع في سوريا وغيرها، ممهورة بترسانة أسلحة الردع المتطورة التي أعلن عنها.
ويأتي استحضار بوتين عوامل “العظمة الروسية” -خصوصا في خطابه الأخير- قبل نحو أسبوعين من الانتخابات الرئاسية المقررة في 18 مارس/آذار الجاري، ولم ينس فيه تذكر “الإهانة التي شعرت بها روسيا خلال السنوات العجاف” التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 حين “لم يكن أحد ينصت” إلى موسكو، على حد تعبيره.
ويرى محللون أن الخطاب البوتيني القوي -الذي اتخذ منحى عسكريا واضحا- يندرج ضمن السياق الانتخابي المقبل، ولا سيما أنه لم يخل من الحديث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكن الواقع يشير إلى أن بوتين سيصعد بسهولة إلى سدة الرئاسة حتى 2024 في غياب منافس قوي، وبالتالي فهو لا يحتاج كمرشح وكرئيس إلى تلك النبرة العالية تجاه الغرب.

رسائل الردع
والخطاب المعزز بالخرائط والمجسمات والإنفوغرافيك للأسلحة الروسية الحديثة يتناسب تماما -وفق محللين- مع اللحظة السياسية والعسكرية، حيث التصعيد الأميركي في غير ذي مكان، ويأس موسكو من إنجاز تقارب مع إدارة ترمب، ونجاح الدولة العميقة في الولايات المتحدة (المخابرات والبنتاغون ووكالة الأمن القومي) في تكريس روسيا التهديد الإستراتيجي الأول.

وجاءت تصريحات بوتين في وقت تزداد فيه حدة التوتر مع الولايات المتحدة بشأن نشر الدرع الصاروخية على تخومها، حيث أشار بوتين إلى أن بلاده تصنع “أحدث نظم الأسلحة الإستراتيجية للرد على انسحاب الولايات المتحدة الأحادي من معاهدة الدفاع الصاروخي، ونشر هذا النظام على أراضيها وخارج حدودها”.

والملاحظ في النبرة الجديدة لبوتين أنها كانت أكثر مباشرة وحزما، إذ إن الحديث كان موجها مباشرة إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) والولايات المتحدة وكذلك هدف الصواريخ في العرض، مع التأكيد على أن الأسلحة النووية الجديدة وضعت نهاية الأنظمة الدفاعية لحلف الناتو وواشنطن.

وتأتي الرسائل الروسية أيضا في صلب الحرب السورية ومتغيراتها و”محاولات واشنطن نزع انتصارات روسيا في سوريا”، والسعي الغربي لتحويلها إلى “أفغانستان جديدة” وفق ما يقوله مسؤولون روس، والصراع الأخير علىالغوطة الشرقية باعتبارها أيضا حقل صراع عالمي.

وفي سوريا، لا تخرج تصريحات بوتين غير المسبوقة عن سياق رسائل عسكرية متبادلة مع واشنطن بدأت من الهجمات بطائرات مسيرة على قاعدة حميميم في اللاذقية وإسقاط طائرة سوخوي 25 الروسية في إدلب، ومقتل العسكريين الروس في هجوم أميركي في دير الزور شرقي الفرات، وإسقاط طائرة أف 16 الإسرائيلية، وإرسال طائرات الجيل الخامس “سو 57 ” إلى سوريا.

ورغم أن روسيا استطاعت في السنتين الأخيرتين تغيير قواعد اللعبة في سوريا لمصلحتها ولفائدة النظام عسكريا وسياسيا مستفيدة من تراجع أميركي وعدم اهتمام بالملف السوري فإن الإستراتيجية الأميركية الجديدة بالعودة بقوة إلى سوريا وإقامة عدة قواعد هناك تهددان بنسف المكاسب الروسية برمتها.

وفي الوقت نفسه، لم تعد موسكو تخفي تخوفها من تقويض مكاسبها في سوريا، خاصة مع الموقف الغربي الأخير المشترك بشأن الغوطة الشرقية والتهديد بضرب النظام إذا ثبت استعماله للكيميائي وربما يحصل ذلك دون إثبات، وهو ما يهدد هيبة روسيا وموقعها في سوريا ومصالحها كلها، وهي بذلك سعت إلى الزج بكل وسائل ردعها العسكرية لثني الغرب عن ذلك.

من جهتها، أدركت واشنطن بعد طول تردد أن ترك العنان لروسيا في سوريا سيهدد بشطب نفوذها التقليدي في الشرق الأوسط أو تحجيمه، ويستدل محللون على ذلك بأن موسكو بدأت تتسلل إلى الخطوط الخلفية لواشنطن عبر “دبلوماسية السلاح” وتحديدا منظومة أس 400 إلى دول مثل تركيا وقطر والسعودية والإمارات، والعراق، وهو في النهاية دليل ثقة في روسيا إن لم يكن شكوكا بالولايات المتحدة.

ويرجح خبراء أن بوتين يسعى لتحصين مكاسبه في سوريا، ويدشن مرحلة جديدة من الحرب الباردة وتحالفاتها بقوله إن “أي استخدام للسلاح النووي ضد روسيا أو حلفائها -سواء كان بقوة صغيرة أو متوسطة أو أخرى- سنعتبره هجوما نوويا على بلادنا، والرد سيكون فوريا مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب”.

وباعتبار صعوبة استخدام السلاح النووي على نطاق واسع فإن كلام بوتين يعبر عن خطاب ردع قوي وغير مسبوق، ولا سيما وقد أكد أن الحماية الروسية تشمل حلفاء لم يحددهم، في حين أشار محللون إلى أنه ربما يقصد إيران وسوريا، وربما كوريا الشمالية.

كسر التوازنات
وتصب المعلومات التي طرحها الرئيس بوتين -وبعضها معروف للمتابعين للشأن العسكري- في خانة الردع العسكري والتأكيد على أن منظومة الدرع الصاروخية الأميركية على الحدود الروسية لن تكون مجدية مع القدرات العسكرية الروسية الجديدة، وأن سياسة احتواء روسيا لم تنجح ولن تنجح.

وقامت إستراتيجية احتواء روسيا على ضمان التفوق النوعي الغربي في السلاح التقليدي والنووي كما وكيفا، وتوسيع حلف شمالي الأطلسي (ناتو) شرقا إلى الحدود الروسية مع ضم المجر وتشيكيا وبولندا منذ عام 1999 ولاحقابلغاريا وسلوفاكيا ورومانيا وسلوفينيا، وكذلك جمهوريات البلطيق إستونيا ولاتفيا وليتوانيا (2004) لتشكل نطاقا معاديا لروسيا.

وسعت روسيا إلى التصدي لمحاولات حصرها ولجم تمدد الناتو نحوها بالتدخل العسكري المباشر كما في جورجياوأوكرانيا (ضم القرم وإقامة جمهوريتين تابعتين لها في الدونباس) ثم المضي أبعد إلى التدخل في سوريا باعتبارها مجالا حيويا ومنفذا إلى المياه الدافئة وإثباتا لعودتها لاعبا قويا على الساحة الدولية.

وفي وقت سخرت المعارضة الروسية والأوساط الغربية من تصريحات بوتين واعتبر المعارض أليكسي نافالني أن المجال العسكري هو الموضوع الوحيد حيث يمكن لبوتين “أن يكذب بدون أي محاسبة” فإن مؤشرات عدة تؤكد سعي موسكو الحثيث للدفاع عن مصالحها من خلال إستراتيجية جديدة كاسرة للتوازنات القديمة.

وفي ظل الوضع الاقتصادي الذي تعيشه لا تملك روسيا الموارد اللازمة لسباق تسلح جديد تسعى واشنطن إلى جرها إليه، ولا ينسى الروس وبوتين نفسه كيف دمر هذا السباق خلال الحرب الباردة الاقتصاد السوفياتي ثم قوض الاتحاد السوفياتي برمته.

ورغم أن الفوارق الكبيرة بين ميزانية روسيا العسكرية (نحو ستين مليار دولار) والولايات المتحدة (نحو سبعمئة مليار دولار) فإن موسكو تستثمر قدراتها الخاصة وتفوقها في بعض المجالات العسكرية -خاصة الصواريخ- لضمان قوة الردع على الأقل في السنوات المقبلة بدون الانجرار إلى سباق تسلح مكلف.

وأحدثت تصريحات بوتين حالة توتر في الأوساط العسكرية الأميركية بواشنطن ولدى حلف الناتو، وأكد خبراء عسكريون غربيون على تأخر الولايات المتحدة عن روسيا والصين في تكنولوجيا الصواريخ فرط الصوتية، وهو ما يجعل روسيا في موقع تفوق على الأقل في السنوات القادمة وعامل إزعاج يمنع تفرد واشنطن بملفات المنطقة والعالم وفق الكثير من المحللين.

زهير الحمداني

الجزيرة