ليس الممر البرّي المفترض الذي تريده إيران ممتدّاً من طهران مروراً بالموصل ودمشق ووصولاً إلى الضاحية في بيروت، ذاك الممر الأمني الذي تُمكّنه بمتوالية حروبها الميليشياوية المتنقلة من العراق إلى سورية وسابقاً ودوماً في لبنان، ليس إلا واقعاً جيوسياسياً جديداً في منطقة بلاد الشام يحاول الملالي الحاكمون في طهران فرضه ترسيماً لخريطة عقائدية المنبت، سياسية المرمى والمصبّ.
لا يبتعد الدعم المتصل الإيراني لنظام الأسدَين، الأب والابن، من ذاك المرمى. ويسجّل التاريخ أن حافظ الأسد أدخل سورية في حلف استراتيجي مع دولة الملالي منذ وصول آية الله الخميني إلى الحكم في 1979، وقد جعل من سورية قاعدة لدعم إيران وتوصيل السلاح لها خلال حرب السنوات الثماني على العراق، وناصرها ضد دولة عربية شقيقة وجارة حين كانت طهران معزولة تماماً من طرف دول العالم المتمدّن، شرقاً وغرباً في آن. وقد تبادل النظامان المنافع والدعم في كل شأن تقاطعت مصالحهما فيه. وفي عهد الابن بشار الأسد، ومنذ وراثته الحكم عن أبيه، قام الحرس الثوري الإيراني بتدريب القوات الأمنية والعسكرية وتجهيزها بالعتاد ودعمها، بينما استثمرت الشركات الإيرانية ودفعت بتجارة ضخمة لها في سورية، وفتحت الدولة ممراً جوياً للسياحة الدينية الإيرانية والحج الموسمي للمزارات الدينية المقدسة المنتشرة في سورية وفِي مقدمها مرقد السيدة زينب في ريف دمشق. وبلغ الدعم العسكري والأمني ذروته منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، حيث التزمت طهران بدعم بشار الأسد ونظامه المتهاوي اقتصادياً وعسكرياً، وزجّت بعشرات الميليشيات الطائفية لقمع حراك الثورة والتنكيل بالمدنيين، ولم تبخل بضخ النفط والمال لإنقاذ النظام من سقوطه لولا تدخّلها أولاً، وروسيا تالياً، لنجدته من انهيار حتمي. هكذا، مضى الرئيس الإيراني حسن روحاني في عهده لنظام الأسد حين قال إثر تنصيبه في 2013 ما مفاده أن العلاقات العميقة والاستراتيجية والتاريخية بين سورية وإيران لن تهزّها أي قوة في العالم. الفارق الرئيس في علاقة النظامين أن «حافظ الأبد» كان يملك مفاتيح العلاقة أما الابن فسلّم حرمة القرار لأصحاب العمامات السود من دون وجل!
ويمضي التداخل الإيراني في سورية بذراع عقائدي هيّأ القاعدة المثالية لاستجرار طهران للمقاتلين، مستخدمة المقار الدينية التي سيطرت عليها في دمشق ومحيطها لتغذية النزعات المذهبية التفريقية وتجنيد المتطوعين في صفوف الميليشيات التي استقدمتها لتقاتل عنها بالوكالة، ونصرة لبشار الأسد، ليس لزرقة في عينيه، بل لكونه الرجل الأوحد الذي يضمن لها تحويل دمشق إلى مقر دائم لإطلاق أذرعها الأخطبوطية باتجاه دول الخليج العربي وصولاً إلى باب المندب على سواحل اليمن. وليس «حزب الله» الذي أرسى أول ذراع عسكرية لها في دولة عربية مستقلة هي لبنان إلا بيضة الأفعى، وقد استنسخت منها عشرات الميليشيات التي تضيق المساحة هنا بذكر أسمائها لكثرتها وعمق انتشارها في العراق وسورية واليمن… والعدّ ما زال مفتوحاً يهدّد الدول العربية في المشرق والمغرب، وربما يهدّد العالم.
اليوم، إدارة ترامب الجمهورية ترمي بثقلها السياسي والعسكري بقوة في سورية، ما سبّب حالة من الصداع الدائم لطهران في المكان الذي كانت تظن أنها زرعت فيه إسفيناً لا يتزعزع. فالولايات المتحدة مصممة على كبح جماح المطامع الإيرانية المبثوثة في المنطقة، مستقوية بالميليشيات الطائفية العابرة الحدود، وقد كانت زيارة الرئيس ترامب السعودية، بالوفد الحكومي الموسع الذي صاحبه، رسالة قوية إلى الجارة إيران بأن واشنطن عازمة على الدفاع عن أمن المنطقة واستقرارها ودعم شركائها العرب في دفاعهم عن سيادتهم بوجه الطموح التوسعي الإيراني المتعاظم.
وما الحضور العسكري الأميركي القوي في الشمال والجنوب السوري، وتخصيص الدعم المالي والمستشارين الدبلوماسيين والمدربين العسكريين لدعم حلفائها من المعارضة المعتدلة، إلا إجهاضاً لأحلام أصحاب العمامات السود الذي استثمروا في إنضاج أضغاثها عشرات من سني الدعم غير المشروط للنظام السوري لقطف الثمرة في دمشق… ولن يقطفوها.
مرح البقاعي
صحيفة الحياة اللندنية