خبت نبرة التصعيد التي ميّزت خطاب أكراد العراق، تجاه الحكومة المركزية في بغداد إثر تمرير الموازنة العامّة للبلاد مع تقليص حصّة للإقليم إلى نسبة 12.6 بالمئة بدل نسبة الـ17 بالمئة التي كان معمولا بها سابقا.
ومن التنديد بـ”الظلم والاضطهاد” والتلويح بالانسحاب من العملية السياسية برمّتها، ارتدّ الخطاب السياسي لأكراد العراق إلى الحديث عن تقارب مع الحكومة المركزية، واستبعاد استخدام أسلوب الضغط من قبل أي طرف تجاه الآخر.
وقال المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان سفين دزيي، الخميس، إن رئيس الوزراء حيدر العبادي ورئيس حكومة الإقليم نيجيرفان البارزاني بحثا مسألة رواتب الموظفين وفتح مطارات الإقليم، وإنّ تقاربا مبدئيا تحقّق بين الجانبين.
ولا يبدو خطاب التهدئة هذا خيارا سياسيا لإقليم كردستان العراق بقدر ما هو ضرورة فرضها انعدام الخيارات، خصوصا وأنّ أربيل في المرحلة التي أعقبت تنظيم استفتاء الاستقلال في سبتمبر الماضي بدت فاقدة للسند ومتروكة لمصيرها خصوصا من قبل الولايات المتّحدة، فيما اتّكأت بغداد إلى مساندة إيرانية تركية قوية لاتخاذ إجراءات قاسية أحبطت الاستفتاء ومنعت تنفيذ ما تمخّض عنه.
ووصلت تلك الإجراءات إلى حدّ انتزاع السيطرة على مناطق متنازع عليها في مقدّمتها كركوك الغنية بالنفط من سيطرة القوات الكردية من بيشمركة وأسايش.
قيادة إقليم كردستان العراق لا تملك في الوقت الحالي الكثير من الأوراق لمواجهة الحكومة المركزية، نظرا لفقدها السند الدولي من ناحية، ولوقوعها تحت ضغط أزماتها السياسية، وخصوصا المالية التي تجعلها مجبرة على المرونة والقبول بحصّة الإقليم من الموازنة العراقية رغم تقلّص حجمها.
وما إقرار الموازنة من قبل البرلمان العراقي “عنوة” ورغم اعتراض النواب الأكراد عليها، سوى وجه من وجوه سياسة المغالبة وفرض الأمر الواقع التي باتت بغداد تسلكها حيال إقليم كردستان العراق الذي عاش بعد سنة 2003 أزهى سنواته وتمتّع بمساندة أميركية حوّلته إلى وضع أقرب ما يكون إلى وضع الدولة المستقلّة، ما رفع مطامح رئيس الإقليم وزعيم الحزب الديمقراطي مسعود البارزاني وأغراه بقطع الخطوة الأخيرة وفرض الاستقلال كأمر واقع من خلال الاستفتاء المذكور، لكن العملية لم تسر وفق ما هو مخطط لها.
ولم ينقطع البارزاني خلال سنوات الحرب على تنظيم داعش التي شاركت فيها قوات البيشمركة الكردية، وتمكنت بفضلها من بسط سيطرتها على مناطق متنازع عليها، عن التلويح بتوجّهاته الاستقلالية، مجملا ذلك في شعاره القوي الذي يقول إن حدود الإقليم الجديدة رسمت بالدمّ.
وقال دزيي في مؤتمر صحافي إن “إقليم كردستان يؤكد دائما على تطبيق الدستور وحل المشاكل عبر الحوار”، لافتا إلى “أننا لا نتحدث عن استخدام الضغوط لا من قبل الإقليم ولا من قبل بغداد”.
ويعيش إقليم كردسان العراق أزمة اقتصادية واجتماعية حادّة بفعل قطع بغداد التمويل عنه وتمسّكها بإعادة إحصاء عدد موظّفيه الذين تقول إنّه مبالغ فيه. وعجز الإقليم عن دفع رواتب الموظفين، وشهد بسبب ذلك موجة احتجاجات عارمة.
وأعرب دزيي عن أمله بأن “ينفذ رئيس الوزراء ما أعلن عنه بشأن رواتب الموظفين وفتح المطارات في الموعد الذي حدده”، مشيرا إلى “إكمال عملية التدقيقات في قوائم رواتب موظفي وزارتي الصحة والتربية بالإقليم”.
وكانت الحكومة المركزية العراقية قد وجّهت بنجاحها قبل أيام في تمرير موازنة العام 2018 على الرغم من الاعتراض الشديد لأكراد البلاد عليها، ضربة جديدة لسلطات إقليم كردستان تجاوزت بكثير بعدها المالي المتمثّل في تقليص حصّة الإقليم من الموازنة، إلى أبعاد ذات طبيعة سياسية مكرّسة لسياسة المغالبة والاستقواء وفرض الأمر الواقع التي أصبحت بغداد تنتهجها مع أربيل منذ الاستفتاء المذكور.
ومع تمرير الموازنة “قسرا” وجدت القيادة السياسية الكردية نفسها مجدّدا في موضع العاجز عن فعل شيء عملي يحفظ لها على الأقل هيبتها التي اهتزت في أعين سكّان الإقليم. وترقى القضية المالية في إقليم كردستان العراق إلى مقام المعضلة، إذ أنّ قناة التمويل المقدّم من المركز، وإن كان لا يفي بالحاجة، هي الوحيدة المتاحة حاليا بعد وضع بغداد يدها على نفط كركوك، وعدم إمكانية تصدير نفط الإقليم بشكل مستقلّ عن المركز.
ولذلك فإن السبيل الوحيد أمام كردستان حاليا هو التفاهم مع بغداد للحصول على عائد مالي بغض النظر عن حجمه. ويرى مراقبون أنّ ضعف الإدارة السياسية لإقليم كردستان إزاء الحكومة المركزية العراقية عائد لخلافات داخلية شديدة وصلت حدّ الصراع والتناحر بين الفرقاء السياسيين داخل الإقليم، وإلى أخطاء جوهرية وقعت فيها قيادته، لكنّهم ينبّهون في المقابل إلى أن أربيل فقدت السند الدولي الكبير الذي كان متمثّلا بشكل رئيسي في الولايات المتحدة الأميركية التي لم تستطع بفعل حساباتها المعقّدة في المنطقة ومصالحها مع بغداد وأنقرة أن تقف مع مسعود البارزاني في قضية الاستفتاء.
صحيفة العرب اللندنية