هل نشهد الآن نهاية “داعش”؟ من الصعب رؤية كيف يمكن لهذه المجموعة أن تعود بعد استعادة الرقة والموصل منها، لكن صعودها السريع وسقوطها الظاهر لطخا المنطقة بالجرائم المخيفة والدمار الهائل، ونثرا فيها بذور الصراع الطائفي. ومع ذلك، يمكن القول إن الناتج الاستراتيجي الأهم لوجود “داعش” كان فتح بوابات الإقليم على مصراعيها لعودة القوى العالمية والإقليمية ونشاطها.
كان تنظيم القاعدة قد تجنب أن يجعل من نفسه هدفاً جغرافياً (والذي تمكن مهاجمته بسهولة)، معتمداً بدلاً من ذلك على صعوبة إلحاق الهزيمة بأيديولوجيته. ولذلك السبب، وعلى الرغم من الخصومة بين المنظمتين، حذر القاعدة تنظيم “داعش” من عواقب إعلان خلافة إقليمية على أرض محددة. وقد سيطر “داعش” على أكثر من 34.000 ميل مربع في سورية والعراق في العام 2014، من ساحل البحر المتوسط إلى جنوب بغداد. لكن الأمور أصبحت مختلفة تماماً اليوم مع حدوث تغير كبير في خرائط سورية العراق.
استغرق الأمر ثلاث سنوات تقريباً حتى تمكنت قوات النظام السوري (مدعومة بالقوات الروسية، والميليشيات المدعومة من إيران، وحزب الله)؛ وقوات سورية الديمقراطية (مدعومة من الولايات المتحدة)، والجيش السوري الحر (مدعوماً من تركيا وقطر)، ومقاتلو البشمرغة الكردية، والقوات المسلحة العراقية وقوات الحشد الشعبي (مدعومة من إيران والميليشيات الإيرانية)، بالإضافة إلى التحالف المكون من 69 دولة ضد “داعش”، حتى تمكنت كل هذه القوى من وقف الكارثة ووضع نهاية لوجود ما تدعى “الخلافة”.
يحمل أفول “داعش”، وإنما أيضاً تأسيسه، وصعوده وتوسعه، البصمات الواضحة لقوى إقليمية وعالمية. وخلال احتلال الولايات المتحدة للعراق قبل بضع سنوات، لم يكن “داعش” أكثر من مجرد فرع صغير لتنظيم القاعدة في العراق، أسسه أبو مصعب الزرقاوي. وبعد اغتيال الزرقاوي، أعلن القائد الجديد للتنظيم، أبو أيوب المصري، تأسيس تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” في العام 2006. وقاد أبو عمر البغدادي المنظمة الإرهابية حتى وفاته وقدوم القائد الجديد المعروف جيداً، أبو بكر البغدادي، في العام 2010. وقد استغرق الأمر البغدادي ثلاث سنوات لاستيعاب المجموعة المتشددة المدعومة من تنظيم القاعدة في سورية، جبهة النصرة، وتسمية قواتهما المشتركة “الدولة الإسلامية في بغداد وبلاد الشام”، أو “داعش”. ثم قررت المنظمة الانسحاب من تحالفها مع منظمتها الإرهابية الأم، القاعدة، فيما أعلنت الأخيرة قطع علاقاتها بـ”داعش” بعد أشهر من الاقتتال الداخلي مع جبهة النصرة. وقد توسع “داعش” وتمكن بسرعة كبيرة من اجتياح مساحات شاسعة من الأرض في سورية والعراق.
في رأيي، كانت نقطة الانعطاف المهمة في دورة حياة “داعش” هي حادثة وقعت في سجن أبو غريب سيئ السمعة الذي صممته الولايات المتحدة في العراق. فقد وقع هروب جماعي مثير للشك لنحو 500 من كبار تنظيم القاعدة المدانين (الذين كانوا قد تلقوا كلهم أحكاماً بالإعدام) في شهر حزيران (يونيو) من العام 2013. ووفقاً للعديد من المراقبين، شكل ذلك الهروب مما يُفترض أن يكون سجناً مشدد الحراسة العمود الفقري لحدوث طفرة في ناشطي “داعش”. وبعد بضعة أشهر من حادثة الهروب من السجن، تمكن “داعش” من احتلال ثلث العراق، وفي أقل من عام بعد ذلك، استولى على الموصل وتكريت في حزيران (يونيو) من العام 2014.
شكل احتلال الموصل معضلة. كان يحرس هذه المدينة التي هي ثاني أكبر المدن العراقية نحو 60.000 من رجال الأمن، بمن فيهم 30.000 من الجنود المدربين (فرقتان) ونحو 30.000 من أفراد الشرطة الاتحادية. وعلى الجانب الآخر، قُدر عدد المهاجمين من “داعش” بما بين 800 و1.500 من المقاتلين المتمردين. وبعبارات أخرى، كانت قوات الأمن العراقية الرسمية تفوق مقاتلي “داعش” عددياً بنسبة تجاوزت 15 إلى 1. ولإضافة الملح على الجرح، استمرت المعركة من أجل الموصل ستة أيام. وكان يمكن أن ترسل بغداد خلال هذه الفترة بسهولة المزيد من الواحدات المقاتلة وبطاريات المدفعية، وكان يمكنها طلب الدعم الجوي (من الولايات المتحدة وآخرين). وبذلك، بدا سقوط مدينة الموصل العراقية الغنية بالنفط، التي كان فيها أكثر من 400 مليون دولار (322 يورو) من النقد، أشبه بالتسليم بشكل لا لبس فيها.
تتركنا هذه التطورات بلا تفسير آخر سوى أن توسع “داعش” وانكماشه كان شأناً منسقاً. ولنفكر، على سبيل المثال، في نشر ميليشيات حزب الله الشيعية في سورية. كانت العديد من القوى الغربية، وحتى عدد من الدول العربية، قد صنفت حزب الله كمنظمة إرهابية. كما ترى إسرائيل أيضاً في حزب الله وقواته تهديداً وشيكاً. ومع ذلك، تمكن حزب الله من نشر آلاف الجنود من لبنان إلى سورية وعبور حدود دولية من دون أي رد فعل أو انتقادٍ جدّي.
وبالمثل، توجه القليل من الانتباه إلى حقيقة أن الآلاف من مقاتلي “داعش” الأجانب شقوا طريقهم بسهولة إلى داخل العراق وسورية، في حين كان كل جيش وجهاز مخابرات على ظهر الكوكب تقريباً (مع كل أقمارهم الاصطناعية) يشاهدون ذلك. وفي مؤتمر صحفي يوم 17 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2017، قال العقيد في الجيش الأميركي والمتحدث باسم التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، رايان ديلون، إن تدفق مجندي “داعش” من المقاتلين الأجانب انخفض من نحو 1.500 مقاتل في الشهر إلى قرب الصفر اليوم. وتثير هذه الحقيقة وحدها الكثير من القلق إزاء الدور المحتمل لقوى إقليمية وعالمية معينة في تسهيل دخول و/أو خروج متشددي “داعش” من وإلى منطقة الصراع.
حسب التقديرات الأميركية، انضم نحو 40.000 مقاتل إلى “داعش” بحلول العام 2014. وعلى افتراض أن عدد المحليين (مقاتلي “داعش” من العراق وسورية والدول المجاورة) يقترب من ذلك العدد على الأقل، فقد كان لدى التنظيم ما لا يقل عن 70.000 إلى 80.000 مقاتل في سورية والعراق. لكن الأرقام الأخيرة أظهرت أنه لم يكن هناك في المدينتين الأكبر -الموصل والرقة- أكثر من 2.000 جثة لمقاتلي “داعش”، وأن بقايا التنظيم في العراق وسورية لا يمكن أن تكون الآن أكثر من 15.000. فهل يكون الـ65.000 مقاتل المتبقون قد قتلوا؟ كلا. يخبرنا المنطق السليم بأنه إما أن تكون الولايات المتحدة قد بالغت في تصوير قوة “داعش” وعديده من أجل تضخيم خطر المجموعة، أو أن المقاتلين الأجانب تلقوا المساعدة على الفرار.
وبالطريقة نفسها، قد يجادل المرء بأن عمليات الإنزال الجوي للقوات الخاصة الأميركية في دير الزور قبل بضعة أشهر حدثت من أجل إجلاء العملاء والموالين لـ”داعش” قبل وصول الروس وحلفائهم. وقد اتهمت روسيا في الآونة الأخيرة الأميركيين بالتآمر مع “داعش” للسيطرة على المناطق الشرقية من مدينة دير الزور ونهر الفرات قبل أن يتمكن النظام السوري وحلفاؤه من الوصول إليها. وفي واقع الأمر، فإن احتلال قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة حقل العمر النفطي قبل وصول قوات النظام السوري، على الرغم من أن الأخيرة كانت أقرب إليه (على بعد 3 كيلومترات)، يثير الكثير من الشكوك، خاصة عند النظر في المخاوف التي أعرب عنها وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، بشأن انسحاب “داعش” من محافظة الحسكة لصالح الأميركيين.
على المستوى الاستراتيجي، يستطيع المرء أن يقول إن “داعش” وشعار محاربة الإرهاب قدما غطاء مفيداً للعديد من البلدان: عودة الولايات المتحدة إلى سورية والعراق؛ وتدخل روسيا في سورية؛ ووجود إيران الرسمي في سورية والعراق؛ بالإضافة إلى أعمال وأنشطة قوى إقليمية أخرى، بما فيها تركيا وإسرائيل والسعودية والإمارات وقطر.
خدم الوجود المطوَّل لشبه دولة “داعش” مصالح القوى المتدخلة بطريقة تقترب من الكمال. فقد تم إضعاف الجيشين العراقي والسوري وموارد البلدين؛ وتم تنضيب قدرات المقاتلين الشيعة (حزب الله والحرس الثوري الإيراني) والمتشددين السنة (“داعش” والقاعدة وجبهة النصرة)، وتمت إعادة تمصيم مدارات النفوذ بين القوى المختلفة؛ وتم تعظيم الاعتمادية على القوى الأجنبية في الدعم العسكري والسياسي؛ وأخيراً، تم استغلال واستباحة موارد المنطقة، وخاصة النفط. ووفقاً للعديد من التقارير، فإن إيرادات “داعش” الأساسية جاءت من إنتاج النفط وتهريبه، وشلمت تجارة النفط عقد صفقات سرية بين “داعش” واللاعبين الرئيسيين الآخرين، بمن فيهم الحكومة السورية نفسها.
باختصار، أعتقد أن الفوضى والتشوش اللذين نجما عن وجود “داعش”، قد تلقيا في الأساس دعماً من قوى إقليمية وعالمية. وكان كل واحد من هؤلاء اللاعبين يسعى إلى التوسع والبناء على تدخله سواء من حيث تأسيس تواجد عسكري طويل الأمد أو تحقيق مكاسب اقتصادية. ولم ينته تهديد “داعش” بعد. وإذا كانت هذه المنظمة الإرهابية قد برهنت شيئاً على مدى العقد الماضي، فهو أن لديها القدرة على تجنيد أعضاء جدد. وتشكل الدول الفاشلة والضعيفة بيئات خصبة تستطيع فيها المنظمات الإرهابية والمتطرفون إعادة تجميع أنفسهم والتوسع من جديد.
فادي الحسيني
صحيفة الغد