روسيا فاجأت أميركا. ليست القناعة اليوم في الأوساط السياسية والفكرية في واشنطن أن روسيا بلغت درجة التكافؤ الموضوعي مع الولايات المتحدة، فالتقييم لا يزال أنها اقتصادياً في أزمة بنيوية، والتوقعات في شأن مستقبلها ليست إيجابية. ولكن الحقيقة التي استفاق لها الوعي السياسي والإعلامي الأميركي هي أن روسيا اليوم في موقع الإقدام والهجوم وكسب المواقع عالمياً، فيما الولايات المتحدة مخترقة وغير مهيأة لمواجهة الخطوات الروسية المتصاعدة.
وإذ لا يرى المتابعون الأميركيون للشأن الروسي إمكانية تثبيت روسيا لمكاسبها على المدى البعيد، فإن تقييمهم للخطر الذي يشكله التقدم الروسي مبني تحديداً على إدراك روسيا أن الفرصة المتاحة اليوم هي ذات أجل محدود.
«نفاد الصلاحية» بالنسبة لروسيا، وفق المتابعات الأميركية، عائد إلى الانحدار الخطير في مستوى المؤسسات البحثية والجامعية في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، وما صاحب ذلك من هجرة واسعة للمختصين استجابة للاستقطاب المؤسساتي والمالي في الولايات المتحدة في شكل خاص. غير أن روسيا، وفق المراجعة الحالية لهذا التقييم، لم تفرغ من الكفاءات في كامل المجالات، بل فقدت أساساً ما كانت عليه من مواقع طليعية في البحث العلمي الصرف، مع الاحتفاظ بتقدمها في المجالات التطبيقية، لا سيما المعلوماتية.
وقد كان للخطة الإقدامية الروسية في المرحلة الماضية، والتي لم تولِها واشنطن الاهتمام الكافي، وفق المراجعة المستجدة، ثلاثة عناصر رئيسية:
الأول، هو السعي إلى إعادة السيطرة والنفوذ في الساحات التي خسرها الاتحاد السوفياتي عبر الوسائل التقليدية، الاقتصادية منها والعسكرية، المباشرة والمكشوفة منها، في أوكرانيا وسورية مثلاً، كما غير المباشرة عبر تسليح الوسطاء والحلفاء، في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ضمن جورجيا مثلاً. الهدف المعلن هو فكّ الطوق الذي تحاول الولايات المتحدة فرضه على روسيا المنحسرة بعد الحرب الباردة، فيما الغرض الحقيقي هو مد النفوذ وتثبيته انطلاقاً من العلاقات والمواقع السابقة. وكل من حرب الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش على الإرهاب، وميل الرئيس السابق باراك أوباما إلى المهادنة والتنصل، شكل الفرصة السانحة لموسكو للتصعيد المؤطّر، من خلال محاكاة منطق إدارة بوش بحروب موازية على «إرهابات» متجولة، أو من خلال ضبط إيقاع أوباما، الخطيب غير الخطير والقابل للتوجيه.
أما العنصر الثاني، فهو الاستثمار الذكي للمنظومة الدولية، فعلاً وتركاً. فبعد أن كانت الولايات المتحدة هي الخارجة عن الإجماع المعنوي الدولي، عند استدعائها حق النقض لحماية حليفتها إسرائيل من القرارات التي تدينها، فإن روسيا التزمت، منذ اندلاع الثورة السورية، نهجاً مطابقاً لوقاية نظام دمشق من قرارات ضده في مجلس الأمن. وإذا كانت الولايات المتحدة، قبل ترامب طبعاً، هي حاملة لواء حقوق الإنسان، فإن روسيا، وبثبات مستمر، انتصرت بالمقابل للشرعية الدولية والتي تدعو إلى احترام سيادة الدول (أي ضمان حق الحاكم المتسلط بقمع معارضيه). وفي مقابل الانشغال الأميركي بالتناحر الداخل ي في المحافل الدولية، كأن يتقمص أوباما شخصية النقيض لسلفه، ويُحتفى به بذلك عالمياً، وصولاً إلى منحه جائزة نوبل للسلام لمجرد أنه ليس بوش، أو كأن ينقل ترامب إلى العالم أجمع سفاهة تهجمه الشخصي على أوباما وسائر السياسيين في بلاده، فإن موسكو، والتي أمسك بزمام أمورها دون هوادة فلاديمير بوتين، ثابرت على رؤية توسيع نفوذها على المدى البعيد بما يتضمن جهداً واضحاً للتأطير التصويري المنسجم مع توقعات المواطن (المشاهد) في مختلف الساحات المقصودة بإعلامها.
تركيز واشنطن على الخطر الإسلامي أضعف قدرتها على تبين النجاح الروسي في الاستفادة القصوى من القوة الصلبة المتوفرة والاستثمار الذكي للقوى الناعمة الممكنة. أما المفاجأة الحقيقية، أميركياً، فكانت في العنصر الثالث للخطة الإقدامية الروسية المستقرأة، أي الحرب العالمية المعلوماتية والتي شنتها روسيا وسط غفلة غربية للعديد من وجوهها.
الحديث في الوسط السياسي الأميركي عن أن الحرب المقبلة سوف تكون معلوماتية تكرر مراراً على مدى الأعوام. وثمة اعتزاز أميركي بالنجاح في عرقلة البرنامج النووي الإيراني وتأخيره من خلال هجمة «ستاكسنت» المعلوماتية والتي شاركت فيها إسرائيل. ولكن ما لم يكن بالحسبان هو الحجم والعمق والاتساع للاندفاع الروسي في الإعداد لهذه الحرب والشروع بها للتوّ. التفاصيل كانت متوفرة، ولكن تقييم وطأتها كان قاصراً.
بين ما يقارب الليلة وضحاها، تدرك الولايات المتحدة أن معظم نظمها الحيوية، من الطاقة والاتصالات والتجارة والمصارف والرصيد العلمي المتراكم، مكشوفة فعلياً للتدخل الروسي، وأن هذا الاختراق ترك بصماته عمداً في بعض الحالات لإبراز قدراته، والأخطر أن النظم الانتخابية من لوائح الشطب إلى صناديق الاقتراع المؤللة على مستوى الولايات المختلفة تبدو كذلك هدفاً للاختراق. ولكن الحرب المعلوماتية الروسية لا تقف عن حد التسلل والاستيلاء على المواد وعرقلة النظم التنفيذية، بل يبدو جلياً من خلال متابعات مستقلة لجهات رسمية وأهلية، ثم من خلال الاتهام الذي أصدره المحقق الخاص روبرت مويلر، بأن لروسيا عملية إعلامية ونفسية ضخمة تهدف إلى التأثير على الرأي العام لهدف استنزاف خصومها وإنهاكهم، بوسائل تتراوح بين نشر الأفكار في محافل التواصل الاجتماعي والمخادعة الفجة. وأصبح واضحاً كذلك أن هذه الحرب المعلوماتية الروسية المفتوحة لا تقتصر على الولايات المتحدة، بل هي ذات بعد عالمي ينكشف تدريجاً. ولا سبيل إلى تقييم دقيق لنتائج هذه الحرب، بل الرأي السائد ربما هو ضرورة التقليل من تأثيرها صوناً لاستقرار سياسي مهدد في أكثر من موقع، ولعدم الطعن في مشروعية النظم السياسية القائمة، بما يخدم الغرض الأصلي من الهجوم الروسي.
وللولايات المتحدة إمكانيات تعزيز الدفاع المطلوب لمواجهة الهجمة الروسية، ثم التحول إلى الهجوم ونقل المعركة إلى الداخل الروسي. ولكن هي إمكانيات نظرية، ولا ضمانة البتة بأن للولايات المتحدة تفوقاً فيها. والأخطر أن الرئاسة الأميركية لم تفوّض الأجهزة الأمنية مهمة الشروع بالرد. قد يكون الأمر نموذجاً آخر من الفوضى المستشرية في عهد الرئيس الحالي. غير أن ثمة من يخشى أن يكون في احتمالات تورّط حملته، بالتواطؤ مع روسيا، غيث من فيض لحالة أكثر سوءاً وكارثية.
من نبوءات الملاحم والفتن والتي يتلقفها ويتداولها المؤمنون من مختلف الملل في الولايات المتحدة، إلى توقعات الانهيار البيئي أو الاندثار الاقتصادي، مروراً بهوس كارثة العام ألفين المعلوماتية والتي تبين أنها محض وهمية، كما الانشغال بخطر المؤامرة الإسلامية المزعومة لفرض الشريعة على المجتمع الأميركي، تنغمس الثقافة الأميركية بمخاوف مؤامراتية تنذر باقتراب النهاية. ثمة من يسقط الخشية المتصاعدة من روسيا في هذا الإطار. وثمة من يرى أن الاستهتار بالخطر الروسي المقبل هو خطر مضاعف. وكما في موضوع الإسلاميين، فإن التحدي الحقيقي هو التصدي للخطر المتحقق من دون التسبب بمضاعفته من خلال الخطوات ذات النتائج العكسية. وسجل الولايات المتحدة في هذا الصدد ليس ناصعاً.
حسن منيمنة
الحياة اللندنية