بعد مرور سبعين سنة على التشريد العنيف لمئات الآلاف من الفلسطينيين، حان الوقت لنقض ذلك الظلم وتمكين كل الراغبين في العودة كمواطنين متساوين من القيام بذلك، مع احترام حقوق وهويات كل من يعيش في إسرائيل-فلسطين.
* * *
بالنسبة لملايين الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، يشكل حق العودة قضية بالغة الأساسية -بل أهم شرط مسبق لحل الصراع. ومع ذلك، تجري إثارة هذه المسألة في إسرائيل بشكل عشوائي ولا يتم التعامل معها بما ينبغي من الجدية. وقد نشرت “مجلة 972+” مؤخراً، سلسلة من الوثائق المهمة المستخرجة من أرشيفات الدولة، والتي تُظهر كيف تم تحويل ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين إلى القائمين على أملاك الغائبين.
وفي الوقت نفسه، ثمة نقاش كان يدور على صفحات اليومية الإسرائيلية، “هآرتس”، حول الموقف الأنسب من مسألة حق العودة. ويأتي المساهمون في هذا النقاش من مختلف مشارب الطيف السياسي الإسرائيلي: زئيف بنيامين بيغن كان عضواً في حكومة نتنياهو. وكان شاؤول أرييلي مرشحاً للكنيست عن حزب “ميرتس”، وكان يناضل منذ سنوات طويلة لفضح المظالم الناجمة عن بناء الجدار الفاصل. وأوري أفنيري هو مؤسس منظمة “غوش شالوم”، والذي تجرأ على الالتقاء بياسر عرفات في بيروت في ذروة حرب لبنان الأولى. وشلومو ساند هو أكاديمي مثير للجدل، والذي يهدف عمله إلى تحطيم أسطورة الاستمرارية البيولوجية اليهودية.
ولكن، على الرغم من هذا التنوع الظاهري -والشجاعة التي أظهرها الكتاب الذين ينحازون عن الإجماع العام- من المثير للاهتمام ملاحظة أن جميع المتحاورين كانوا متفقين بشكل أساسي. وقال زئيف بيغن إنه “متشائم” حيال آفاق السلام لأنه لا يعتقد أن الفلسطينيين سوف يتخلون عن حق العودة. واقترح أرييلي وقف “التهديد الديموغرافي لهوية إسرائيل اليهودية” من خلال تدابير مثل تعويض اللاجئين وإعادة توطينهم في بلدان أخرى. ويعرض ساند التعويض على أساس الاعتراف بأن “هذا الحق (حق العودة الفلسطيني) يتناقض مع الهوية اللغوية والثقافية الموجودة في إسرائيل، بل وربما حتى مع وجود إسرائيل نفسه”. ويقترح أفنيري استيعاب كوتا محدودة من اللاجئين على أساس أنه “لا أحد يتوقع أن تنتحر إسرائيل وتوافق على إعادة توطين ملايين اللاجئين”.
وهكذا، ظل الخطاب المحيط بحق العودة عالقاً في الشعارات حول “الانتحار” و”التهديد الديموغرافي”، التي يمليها نظام خائف من حل حقيقي للصراع، ومن التغييرات الواسعة التي قد تترتب على ذلك. ولكن، ألم يحن الوقت لاستبدال هذه الشعارات بمناقشة جادة؟
إليكم بعض الحقائق الأساسية حول حق العودة الذي يطالب به الملايين من الفلسطينيين كشرط للسلام. أولاً، كانت الهوية الفلسطينية التي تشكلت في هذه الأرض محلية في الأساس. وعلى سبيل المثال، عاشت عائلة الخالدي في القدس منذ العصور الوسطى، وقد دفن جميع أجدادهم هناك. والهوية المحلية متصلة بتقاليد محددة -لهجة معينة، ولباس، ومطبخ، ونباتات معينة، والشعور بالحياة الذي يوفره لك السكن على الأرض التي عاش فيها أجدادك لأجيال.
الهوية المحلية ليست وهماً عابراً. وما يزال اللاجئون الفلسطينيون الذين يعيشون منذ عقود في غزة أو الضفة الغربية أو لبنان أو الولايات المتحدة يحافظون على هذه الهوية المحلية، وبالتالي، لن تقدم لهم إعادة توطينهم في ضواحي رام الله حصولاً حقيقياً على حقوقهم أو هويتهم. ويحفظ الإسرائيليون عن ظهر قلب إعلان الاستقلال لبلد تشكلت فيه الهوية الروحية اليهودية منذ أكثر من 2000 عام. ولا يمكنهم أن يتوقعوا أن جوهر الهوية الوطنية لشعب نفي من أرضه قبل سبعين عاماً فقط سيتبخر فجأة من أجل تمهيد الطريق لمعاهدة سلام. وتساوي احتمالية أن يتخلى الفلسطينيون عن العنصر الأساسي في هويتهم احتمالية أن يشرع ملايين الإسرائيليين في “إعادة النظر” في هويتهم الإسرائيلية و”العودة” إلى الأراضي التي هاجر منها أجدادهم. كلٌّ من هذين الوهمين خطير لأنهما غير واقعيين.
اكتشف الجغرافي الفلسطيني سلمان أبو ستة، الذي يذكره أفنيري في مقالته، أن 85 في المائة من الأراضي التي يطمح اللاجئون إلى إعادة توطينهم فيها في إسرائيل هي أماكن قليلة السكان. وقد تم تحويل معظم القرى الأربعمائة التي تم تدميرها خلال النكبة وما بعدها إلى متنزهات وطنية أو تحويلها إلى أراض زراعية، بما في ذلك القرى التي أصبح ساكنوها السابقون اليوم لاجئين نازحين داخلياً، يحملون الجنسية الإسرائيلية. كما أظهر استطلاع أجراه معهد سميث أن ربع سكان الجليل اليهود يرحبون بعودة اللاجئين، بشرط عدم عودتهم إلى المناطق المأهولة باليهود.
تسعى أقلية صغيرة فقط من اللاجئين إلى العودة إلى المناطق الحضرية المكتظة بالسكان اليهود. وفي معظم هذه المناطق دُمرت المنازل الأصلية، ولا توجد عوائق أمام جعل اللاجئين يعيشون في أي مكان في المناطق المجاورة -على نحو يماثل الطريقة التي يعيش بها اليهود والعرب اليوم في مدن مثل حيفا. أما بالنسبة للأقلية الصغيرة من الحالات التي ما تزال فيها المنازل الأصلية سليمة، فقد تعاونت منظمة “زوخروت” الإسرائيلية مع المنظمة الفلسطينية غير الحكومية “بديل” في صياغة وثيقة إطار قانوني مشترك، والتي توفر دليلاً للمقيمين الحاليين والمالكين الأصليين للتوصل إلى اتفاق مشترك.
وبالإضافة إلى ذلك، قامت منظمة زوخروت، بالتعاون مع جمعية بلدنا، الرابطة العربية لحقوق الإنسان، ومجلس اللاجئين المهجرين داخلياً، بتطوير نماذج تخطيط مختلفة للعودة. وليس هذا “انتحاراً”، باستعارة مصطلح “أفنيري”، وإنما هو عبارة عن مشاريع تخطيط عملية، والتي توفر حلولاً سكنية من دون خلق المزيد من التشريد. وبعبارة أخرى، إنها تعرِض الأمل.
بعد مرور سبعين سنة على التشريد العنيف لمئات الآلاف من الفلسطينيين، حان الوقت لإبطال ذلك الظلم وتمكين كل الذين يرغبون في العودة إلى وطنهم كمواطنين متساوين من القيام بذلك، مع احترام حقوق وهويات جميع المقيمين هناك.
د. توم بيساح
الغد