لاشك في أن إدماج التكنولوجيا في المجال العسكري يُكسب الجيوش ميزة إضافية، هجوماً ودفاعاً، إلا أن تلك التكنولوجيا باتت تمثل في الوقت ذاته تحديات أمنية جديدة, خاصةً مع ظهور منافسين أقوياء للولايات المتحدة في ذلك المجال؛ إذ يشكل انتشارها تحدياً صعباً أمام التفوق التكنولوجي الأمريكي في القدرات الدفاعية والهجومية.
في هذا الإطار، تضمن العدد الثالث عشر من دورية Defense Dossier الرُبع سنوية والصادرة عن مجلس السياسة الخارجية الأمريكية, سلسلة من المقالات لعدد من الباحثين ركزوا خلالها على العلاقة بين التكنولوجيا المتطورة والأمن القومي الأمريكي, وتطرقوا إلى تأثير هذه التقنيات على مستقبل الشؤون العسكرية في السنوات المقبلة، ويشمل ذلك مجال الفضاء الإلكتروني, وأبحاث “النانو تكنولوجي”، وكذلك “الحرب الروبوتية” robotic warfare والتي تُعبر عن مفهوم جديد من “القتال ذاتي التحكم”.
“النانو تكنولوجي” والقوة العسكرية الأمريكية
تحت هذا العنوان، يشير Kelley Sayler– باحث مشارك في برنامج التقديرات والاستراتيجيات الدفاعية بمركز الأمن الأمريكي الجديد – في مقاله بالدورية إلى أن تقنية “النانو تكنولوجي” تُقدم قوة مضاعفة للجيش الأمريكي في مجالات عدة؛ وفي مقدمتها تطوير أسلحة دمار شامل مصغرة. ويتطرق الكاتب بالتفصيل إلى تطبيقات هذه التكنولوجيا في المجال العسكري الأمريكي، والدول المنافسة لها، وذلك كالتالي:
1- تطبيقات “النانو تكنولوجي” في المجال العسكري الأمريكي:
تتمتع الولايات المتحدة منذ فترة طويلة بالريادة فى مجال أبحاث “النانو تكنولوجي”, بيد أنها تعاني من انخفاض مطرد في التمويل الحكومي، بالإضافة إلى زيادة الاستثمارات العالمية لدول أخرى، والتي تهدد الصدراة الأمريكية في هذا المجال.
ونظراً للقيمة المحتملة لتطبيقات “النانو تكنولوجي” في كلِ من المجال المدني والعسكري, أنشأت الولايات المتحدة ما يُعرف بـ”المبادرة الوطنية لتكنولوجيا النانو” NNI عام 2001 لتعزيز أبحاث “النانو تكنولوجي” في عدد من الجهات الحكومية.
ومنذ ذلك الحين, استثمرت الحكومة الأمريكية ما يقرب من 21 مليار دولار في أبحاث “النانو تكنولوجي”, بما في ذلك 1.5 مليار دولار في السنة المالية لعام 2014, وتم تخصيص منها 156 مليون دولار للأبحاث الخاصة بهيئات وأقسام البنتاجون؛ مثل (وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية DAPRA, وبرنامج الدفاع الكيميائي والبيولوجي DATRA, ووكالة الحد من التهديدات الدفاعية).
وكما ورد في الخطة الاستراتيجية للمبادرة الوطنية لتكنولوجيا النانو NNI, فإنه يتم تخصيص جزء كبير من ميزانية الدفاع الأمريكية الحالية في تحسين أجهزة الاستشعار, وزيادة كفاءة استخدام الطاقة, بما يصب في اتجاه تعزيز القدرات القتالية والأمن القومي الأمريكي.
وفي ذلك المجال, يطور الجيش الأمريكي أبحاث تطبيقات المجسات البيولوجية Biosensors والتي تستخدم في الكشف عن أي إصابات دماغية طفيفة لدى الجنود. كذلك, يمتلك الجيش الأمريكي أجهزة استشعار ضد التهديدات البيئية، بما في ذلك المواد الكيمائية والبيولوجية والأمراض الخطرة الأخرى. كذلك توصلت أبحاث “النانوبيولوجي” إلى زراعة أعصاب يمكن أن تعالج اضطرابات ما بعد الصدمة لدى الجنود المصابين أو تحسين ذاكرتهم.
كما يتطرق Sayler إلى استخدام تقنيات “النانو تكنولوجي” في توليد وتخزين الطاقة. ومن ثم, تعزز هذه التكنولوجيا الاستقلال في مجال الطاقة للمنشآت العسكرية.
2- البيئة التنافسية العالمية لأبحاث “النانو تكنولوجي”: ano air vehichle تائج مثمرة فى مجال النانوتكنولوجى, وخاصة برنامج النانوأنه يجرى تطوير نظم تمويه أكثر تقدما تساعد على إخفاء القو
على الرغم من استمرارية صدارة الولايات المتحدة كمستثمر رائد في مجال “النانو تكنولوجي”, غير أنها تعاني من تراجع تمويلها في ذلك المجال. فمنذ عام 2012, انخفضت مستويات التمويل الأمريكي لأبحاث “النانو تكنولوجي” بنسبة 17%, وبما يُقدر بنحو 59% بالنسبة للأبحاث المرتبطة بالشؤون العسكرية.
وفي المقابل, ارتفعت نسبة الإنفاق العالمي في هذا المجال من قَبل الحكومات والقطاع الخاص إلى 40% بين عامي 2010 و2013؛ إذ يوجد أكثر من 60 دولة تمول برامج بحثية “للنانو تكنولوجي” مثل اليابان (1.3 مليار دولار) وروسيا (974 مليون دولار) وألمانيا (617 مليون دولار).
وطبقاً لما ذكره Sayler في مقاله، إذا أرادت واشنطن الحفاظ على ميزتها في التكنولوجيا العسكرية المعتمدة على “النانو تكنولوجي”, فإنه يتعين عليها مضاعفة التزامها للمبادرة الوطنية “للنانو تكنولوجي”, وزيادة تمويل البرامج الدفاعية المتخصصة, وكذلك تحفيز المؤسسات التعليمية والقطاع الخاص لمتابعة الأبحاث في ذلك المجال. وبدون التزام الولايات المتحدة بما سبق, ستصبح عُرضه على نحو متزايد للتقنيات العسكرية الأجنبية المدمرة.
الفضاء الإلكتروني والقدرات العسكرية
في مقال آخر بالدورية، يطرح Paul Rosenzweig – وهو محاضر في القانون وتحديداً قانون الأمن السييراني بجامعة جورج واشنطن– عدة تساؤلات من قبيل: ما الوضع الحالي للولايات المتحدة ومنافسيها فيما يخص قدرات أسلحة الفضاء الإلكتروني؟ وكيف تؤثر تلك القدرات الخاصة على الأمن القومي الأمريكي؟
يُذكَّر الكاتب بشهادة الأميرال مايكل روجرز, مدير وكالة الأمن القومي الأمريكية, أمام مجلس النواب الأمريكي في نوفمبر 2014، حيث حذَّر من أن البنية التحتية الأمريكية في مجال الفضاء الإلكتروني عُرضة للهجوم والاختراق المعلوماتي من قِبل دول أجنبية.
ويشير الكاتب إلى كل من روسيا والصين وإيران باعتبارهم أقوى ثلاث خصوم منافسين للولايات المتحدة في ذلك المجال، إذ تعتبر موسكو الأكثر تقدماً من بكين في مجال صراع الفضاء الإلكتروني، بل تمتلك روسيا قدرات قد تتفوق بها جزئياً على الولايات المتحدة. ويكمن أساس هذا التفوق الروسي في البنية التحتية المتميزة لقدراتها السيبرية. كذلك لا تكمن هذه القدرات في وحدات الجيش الروسي فحسب, بل أيضاً في امتلاكها كوادر تمتلك مهارات تقنية عالية من مخترقي الشبكات.
أما الصين, فقد اعتبرها مركز Verizon Risk Center في تقرير له صدر عام 2013, أكبر فاعل خارجى في مجال الاختراق الإلكتروني. ووفقاً للتقرير، قامت الصين بنحو 95% من الهجمات الإلكترونية التي ترعاها الدول.
كما أشار تقرير للبنتاجون في عام 2010 والمُقدم إلى الكونجرس الأمريكي عن التطورات العسكرية والأمنية للصين، إلى استمرار تعرض العديد من أنظمة الحاسب الآلي في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك المملوكة للحكومة الأمريكية، إلى عمليات الاختراق التي نشأت في الصين.
ومن بين جميع المنافسين للولايات المتحدة, فقد أظهرت إيران استعداداً جدياً لاستخدام الأدوات السيبرية بطرق تدميرية ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية ودول أخرى بالمنطقة. وفي عام 2012, أفادت التقارير أن الميزانية السنوية الإيرانية في مجال الفضاء الإلكتروني بلغت 1 مليار دولار تقريباً.
ورداً على البيئة التنافسية الدولية, فقد أسس البنتاجون وحدة خاصة بالقوة السيبرانية القتالية وقيادة الأمن السيبراني، هدفت إلى تنسيق الجهود اللامركزية للأمن السيبراني وتوفير قيادة موحدة لكل من العمليات الدفاعية والهجومية. فعلى الجانب الدفاعي, تعد القيادة السيبرانية مسؤولة عن الإجراءات الهادفة إلى حماية واكتشاف والاستجابة للنشاط الخفي في إطار نظم المعلومات وشبكات الإنترنت للبنتاجون. كذلك, تنطوي العمليات السيبرانية الهجومية على تعطيل ومنع وتدمير المعلومات, والهجوم الإلكتروني بهدف تدمير البنية التحتية العسكرية أو المدنية للخصم.
“الحرب الروبوتية” ومعضلاتها الأخلاقية
تحت عنوان: “الروبوتات، الحرب، والمجتمع”، تضمنت دورية Defense Dossier مقالاً أعدته Camille François الباحثة المتخصصة في قضايا السياسية الأمنية السيرانية والحرب الإلكترونية بمركز بيركمان للإنترنت والمجتمع في كلية الحقوق بجامعة هارفارد؛ إذ تؤكد الباحثة أنه منذ عام 2007, اكتسبت الروبوتات العسكرية اهتماماً متزايداً في ظل السعي لدراسة الآثار الأخلاقية لاستخدامها في مجال الحروب، ومدى امتثالها لمتطلبات القانون الدولي الإنساني.
وفي هذا الصدد، يُثار خلاف أكاديمي حول مدى أخلاقية استخدام الروبوتات في المجال العسكري، فالبعض يتوقع أنها ستكون أفضل من الجنود في تسيير الحرب في الظروف المعقدة, بل ويمكن أن تكون أكثر إنسانية فى ساحة المعركة من البشر. وفي المقابل, اعتبر أكاديميون آخرون الروبوتات العسكرية من الأسلحة الفتاكة.
وتؤكد الكاتبة أنه لا يوجد حتى الآن أسلحة “ذاتية التحكم تماماً” – أي الأسلحة التي يمكن أن تختار أو تنفذ أهدافها بدون تدخل بشري- منتشرة في أرض المعركة. ولكن التقدم في مجال الهندسة والبرمجيات قد جعل هذا النوع المتقدم من الأسلحة أقرب إلى الواقع, مع تزايد استخدام أسلحة التحكم عن بعد.
وقد ولدت النقاشات السابق ذكرها تحالفات وأشكال جديدة من منظمات المجتمع المدني في ذلك المجال، ومثال على ذلك تأسيس اللجنة الدولية للحد من استخدام أسلحة الروبوت (ICRAC), وهي عبارة عن تحالف من الأكاديميين وناشطي حقوق الإنسان, للدفاع عن فرض حظر دولي على استخدام الأسلحة الفتاكة ذاتية التحكم.
وفي مايو 2014, عقدت الدول الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الأسلحة التقليدية اجتماعاً في جنيف حول “أنظمة الأسلحة الفتاكة ذاتية التحكم” من أجل وضع الروبوتات القاتلة على قائمة الاهتمام الإنساني الدولي.
وأشارت الباحثة Camille إلى تسارع وتيرة إدماج القطاع الخاص في إنتاج الروبوتات، خاصةً العسكرية. ففي عام 2013, أعلنت Google عن شرائها شركة Boston Dynamic المتخصصة في صناعة الروبوتات العسكرية. وفي يناير 2014, أعلنت Google شراء شركة Deep Mind المتخصصة في تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ويقود نقل أبحاث الروبوتات العسكرية من الهيئات العلمية التابعة للجيش الأمريكي مثل وكالة DARPA إلى عمالقة التكنولوجيا مثل شركة Google، إلى توقع تقصير المدى الزمني لتحويل الأبحاث إلى منتجات حقيقية في الأسواق ومجال المعركة.
من ناحية أخرى، توضح الكاتبة أنه يوجد الكثير من الروبوتات العسكرية التي تستخدم في أغراض غير مدمرة؛ مثل الروبوتات المخصصة لحماية القوات في أرض المعركة, أو التي تستخدم في استخراج الجنود الجرحى، أو مساعدة الجنود على اجتياز التضاريس الوعرة, أو الكشف عن العبوات الناسفة والمتفجرات وفكها.
الضربة العالمية الفورية التقليدية CPGS
في مقال رابع بالدورية، يتناول Thomas Scheberنائب رئيس المعهد الوطني للسياسات العامة بولاية فرجينيا – جهود الجيش الأمريكي لتطوير ما يسمى “الضربة العالمية الفورية التقليدية” CPGS، وهي منظومة تستطيع ضرب أي مكان بالعالم بواسطة سلاح تقليدي في أقل من ساعة واحدة من وقت إعطاء أومر التنفيذ. وقد أيدت إدارتا “جورج بوش” و”أوباما” نشر هذه القدرات العسكرية, ومع ذلك لا يوجد خطط محددة لدى البنتاجون لنشرها.
ويؤكد الكاتب على أهمية هذه المنظومة العسكرية في ضرب الأهداف ذي الأولويات العالمية مثل الأهداف العابرة كالفاعلين الإرهابيين أو وقف عملية نقل أسلحة الدمار الشامل. وفي الماضي, منعت القيود المفروضة على توجيه التكنولوجيا وعدم إتاحة المعلومات الاستخبارتية الدقيقة تطوير تلك القدرة العسكرية. وعبر العقدين الماضيين, فإن تطوير تكنولوجيا التوجيه الدقيق precision guidance technologies وتعزيز قدرات المراقبة، جعلت من الأسلحة التقليدية بعيدة المدى ممكنة التحقيق.
وفي ظل بيئة عالمية تنافسية, باتت الولايات المتحدة لا تستأثر بتلك القدرة العسكرية وحدها, بل تعمل الصين وروسيا على تطويرها ومضاعفتها. بالنسبة لروسيا، فإنها تواصل تطوير ترسانة أسلحة تقليدية بعيدة المدى كقوة مكملة للقوة النووية الروسية ولمواجهة القوات التقليدية المتقدمة للولايات المتحدة. وقد حددت العقيدة العسكرية الروسية الأخيرة التي صدرت عام 2014, الأسلحة التقليدية عالية الدقة ضمن مهمة الردع الاستراتيجي.
أما الصين، فمنذ تسعينيات القرن الماضي وهي تعمل على تطوير وإنتاج الصورايخ الباليستية تقليدية التسليح، وهدفت بكين من وراء إنتاج وتطوير تلك الأسلحة إلى تهديد وردع تايوان, لفرض هيمنتها في منطقة غرب المحيط الهادي, أو لدعم استراتيجيتها في منافسة الجيش الأمريكي.
ختاماً, ثمة تحذيرات عديدة لصُناع قرار الأمن القومي الأمريكي من تراجع صدارة الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا العسكرية, مع صعود الصين وروسيا وإيران كمنافسين لا يستهان بقدراتهما في ذلك المجال, علاوة على تعقد الأزمات الأمنية من الفوضى اللامتناهية في الشرق الأوسط, والتوترات في آسيا والمحيط الهادى, وصولاً إلى ازدياد كثافة الحروب اللامتماثلة مع الإرهاب الدولي, وغيرها.
من ثم, وحتى لا تكون البنية التحتية للتكنولوجيا العسكرية الأمريكية عُرضة للهجوم والتدمير, يجب عليها مضاعفة تركيزها على التفوق التكنولوجي من خلال زيادة تمويل البحوث والابتكارات التكنولوجيا العسكرية, وزيادة تعاونها مع القطاع الخاص لإسراع وتيرة نقل تلك التطبيقات لميدان المعركة, وإصدار البنتاجون تقارير سنوية للكونجرس لتقييم أداءه في تطوير الأبحاث والابتكارات العلمية.
* عرض مُوجز لمقالات العدد (الثالث عشر) من دورية ““ Defense Dossier، والصادرة عن مجلس السياسة الخارجية الأمريكية The American Foreign Policy Council (AFPC) في فبراير 2015، والذي تضمن المقالات التالية:
– Kelley Sayler, Nanotechnology and U.S. Military power.
– Paul Rosenzweig, Cyber Weapons and Military Capabilities: An Introduction.
– Camille Francois, Robots, War, and Society.
– Thomas Scheber, Time to Deploy Conventional Prompt Global Strike.
إعداد: مروة صبحي
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المستقبلية