لم تغيّر الضربة الغربية الثلاثية في 14 أبريل الماضي من مجرى الأحداث في سوريا، وبقيت الإبادة والتغيير الديموغرافي عناوين المرحلة بالرغم من الضجيج حول الحرب الإقليمية والمنعطف المرتقب من “لعبة الأمم”، إذ يتسارع الإجلاء القسري من الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي وجنوب دمشق وريفي شمال حمص وجنوب حماة نحو الشمال السوري، من خلال استراتيجية إفراغ المناطق الحيوية بمحيط دمشق على طول الطريق الواصلة بين العاصمة والساحل من حواضن الحراك الثوري التي لاحقها نظام البراميل المتفجرة وداعموه الروس والإيرانيون وابتلت بتعدد الفصائل و”وسخ السلاح” والأفكار الغيبية والوصاية الخارجية. ويطرح ذلك مصير سوريا وكيانها ومناطق النفوذ فيها وكبار اللاعبين فيها، لكن الأكثر إلحاحا مصير الإنسان السوري ومخاطر حصول محرقة في إدلب والتي يتوقف مصيرها على فعالية التنسيق الروسي- التركي وعلى تصورات أنقرة.
إثر الهزيمة الاستراتيجية للمعارضة العسكرية في حلب أواخر 2016، فرضت روسيا اتفاق أستانة مثلث الأضلاع ومناطق خفض تصعيده التي لم تكن عمليا سوى غطاء لتجميع القوى باتجاه الحسم العسكري، وكانت في الحقيقة من أرياف حمص وحماة إلى الغوطة الشرقية مناطق “تصعيد التصعيد”، حيث استخدمت كل ضروب التدمير المنهجي والتهديد بالإبادة، وإلا قبول التهجير القسري في سياق مسار ابتدأ منذ 2011 في أبشع تغريبة تتخطى بحجمها سفر برلك والتغريبة الفلسطينية.
لا يبدو أن مصير منطقة خفض التصعيد في إدلب وجوارها سيكون أفضل من مناطق خفض التصعيد الأخرى، علما وأنها تحتوي الآن أكثر من أربعة ملايين شخص من بينهم عشرات الآلاف من النازحين الذين يعيشون في ظروف مزرية وغير إنسانية.
استنادا إلى الخطاب الرسمي الروسي الذي يعبّر عنه موقع “القناة المركزية لقاعدة حميميم العسكرية” نقرأ يوم 24 أبريل أن “القوات الروسية ستعمل على القضاء على تنظيم جبهة النصرة الإرهابية في مقاطعة إدلب قبل نهاية العام الجاري”. ثم نقرأ بتوقيع فلاديمير نيتريبوف في 26 أبريل أن “استعادة السيطرة على مقاطعة إدلب ترتكز على مسار استراتيجي تحدده مجموعة القوات الروسية في سوريا بناءا على التعدد الفصائلي الذي تحتويه المنطقة من المجموعات المسلحة غير الشرعية في سوريا”.
وبالطبع لم يغب الوضع في إدلب عن قمة أنقرة بين ثلاثي أستانة ولا عن الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية في موسكو، حيث جرى التركيز على أن محافظة إدلب يجب أن تكون “خالية من الإرهاب”، وتسرّب مصادر إيرانية ما مفاده أنه “في حال لم تقم تركيا بتطهيرها، فإن روسيا وإيران هما في حل من هذا الاتفاق، وستدعمان هجوم النظام على إدلب”. وفي هذا الإطار ينقل ناشطون من الشمال السوري معلومات عن استدعاء قيادات من هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) إلى إسطنبول وعرض الجانب التركي عليهم حلين لا ثالث لهما؛ إما أن تحل الهيئة نفسها وينضم من يشاء من عناصرها بشكل فردي إلى الفصائل الأخرى، وإما ستدعم تركيا بقوة قتال الهيئة من جانب بقية الفصائل.
يندرج هذا الجهد التركي في “ترتيب وضع إدلب” ضمن وعد رجب طيب أردوغان بجعلها منطقة آمنة إلى جانب كلّ من تل رفعت ومنبج وكوباني وتل أبيض ورأس العين والقامشلي تحت عنوان “عودة السوريين إلى مناطقهم”. لكن هذا التوجه لا ينفصل عن ربط حل إدلب بباقي الشريط الكردي المفترض واستهداف أردوغان لمشروع الاتحاد الديمقراطي الكردي في حملة “غصن الزينتون” في عفرين من خلال تركيب حلفاء محليين من الأكراد في مجالس محلية. لكن مصادر أوروبية في بروكسل تخشى قيام أنقرة بابتزاز الاتحاد الأوروبي من خلال التحكم بورقة النازحين واللاجئين السوريين وتسهيل تحريك القوارب من جديد، ومن الناحية العملية سيتيح التغيير السكاني وتحريك البائسين والمحبطين إلى منطقة نفوذ أنقرة تشكيل “كتلة سكانية سنية منهكة ومن دون مشروع” تحمل في طياتها بذور الراديكالية ويمكن للرئيس التركي تجيير بعضها لصالح نهجه وتكتيكاته.
ويبقى التساؤل الأهم يتمثل بقدرة أنقرة على إدارة الصراعات في إدلب وريف حلب من أجل تجنيب هذه المنطقة محرقة تطرق إليها مرارا سيرجي لافروف وكذلك جون كيري وستيفان دي ميستورا.
ميدانيا انتشر أخيرا فريق من المراقبين الروس في ريف إدلب شرق خط السكة حول أبوالظهور، ويمكن أن يكون مؤشرا إيجابيا على احترام التنسيق مع الجانب التركي الذي وصل انتشار مراقبيه إلى مورك في منطقة حماة، لكن ذلك يتناقض مع غارات للطيران الأسدي ضد جسر الشغور وغيره من وقت إلى آخر. ويدلل ذلك على سباق خفي يجعل مصير إدلب عرضة للتجاذبات داخل ثلاثي أستانة.
يُعتبر الوضع السوري فريدا ويبرز “الاستثناء” في أكثر من مجال من ناحية منسوب الإبادة والتدمير المنهجي والتغيير الديموغرافي، وفوق كل ذلك صمت أو تواطؤ ما يسمّى المجتمع الدولي حيال هذه المأساة من دون قناع ومن دون تمويه.