لا زالت الأوساط السياسية الايرانية وعل أعلى المستويات تتحدث عن ما آلت إليه نتائج المشهد السوري بعدما تمكنت مجاميع المعارضة السورية من دخول العاصمة (دمشق) وإعلانها عن تشكيل الإدارة الانتقالية التي أوكلت إليها مهمة متابعة شؤون البلاد سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وكان من أولى مهامها تشكيل الحكومة الانتقالية وتحديد الوزارات وتعيين مسؤولين عنها ومتابعة تقديم الخدمات الأساسية لأبناء الشعب السوري، واستقبال الوفود العربية الأوربية والغربية التي بدأت تتوافد على العاصمة السورية للتباحث حول مستقبل العلاقات الثنائية ومسار العملية السياسية بعد سقوط النظام السابق.
هذه التحولات والمتغيرات الميدانية لاقت اهتمامًا بالغًا من النظام الإيراني لما تتمتع به طهران من علاقات استراتيجية طيلة أربعة عقود من الزمن مع نظام الأسد، وأخر الكلام كان الحديث الذي ادلى به المرشد الأعلى علي خامنئي أثناء القائه الخطاب الرسمي في ذكرى مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية في اليوم الثالث من كانون الثاني 2020 في إحدى زيارته المكوكية لبغداد، فاعاد ما قاله قبل أيام حول التغيير السياسي الذي مكن مقاتلي المعارضة السورية وبقيادة هيئة تحرير الشام من تسلم زمام الحكم السياسي في دمشق، عندما أشار وبشكل غير مباشر إلى قائد الحكومة الانتقالية احمد الشرع ( لا تنظروا إلى هؤلاء الجولانيين الباطلين، هؤلاء الذين يتبجحون اليوم سيتعرضون يومًا ما للسحق تحت أقدام المؤمنين)، وهو ما يدلل على عمق الهزيمة السياسية التي حلت بالمشروع الإيراني وسقوط أكبر حليف استراتيجي عربي لإيران في الوطن العربي وفرار رئيسه وتركه للبلاد.
أن حالة الأسى التي يبديها مسؤولي النظام إنما تنم عن ادراك حقيقي لما تم ضياعه من اعداد طيلة عقود من الزمن امتدت منذ عام 1979 وحتى سقوط النظام السوري في الثامن من كانون الأول 2024، وتوقف ميداني لكل ما رسم له من تمدد ونفوذ إتسم به المشروع الإقليمي للهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط وبعد أن كانت إيران تمتلك أوراقًا سياسية وتأثيرات ميدانية عند أي مفاوضات إقليمية ودولية تتعلق بالأزمات والمشاكل التي تحيط بالمنطقة العربية لامتلاكها القدرة الميدانية والقتالية عبر الفصائل والمليشيات المسلحة التي شكلها وقادها الحرس الثوري الإيراني في عدد من العواصم العربية وأصبحت الفاعل السياسي في الميدان الذي يخدم الأهداف والغايات الإيرانية.
أرادت إيران من دعمها للنظام السوري تحقيق عملية التواصل الميداني في نقل المعدات والأسلحة المتطورة وعناصر المليشيات عبر الأراضي العراقية إلى الداخل السوري، ثم توسيع دائرة المهام القتالية لحزب الله اللبناني واعتماد الخطط والبرامج العسكرية التي تعدها رئاسة اركان فيلق القدس في تطوير مديات الحفاظ على الشركاء والأدوات والوسائل التي تحمي وتديم المشروع السياسي الإيراني.
وهذا ما استدل عليه المرشد خامنئي عندما افصح عن وجود قوة تتمتع بالقدرة على المواجهة المستقبلية للقوة التي قادت التغيير السوري بقوله (
الذين اعتدوا على أرض سوريا، سيتعين عليهم في يوم من الأيام التراجع أمام قوة شباب سوريا)،وهو ما يعني الاعداد لمواجهة ميدانية وبتوجيه ودعم من دولة أخرى، الأمر الذي يشكل تدخلًا واضحاً ومعلنًا في الشؤون الداخلية لنظام سياسي ودولة تحكمها الأطر الدبلوماسية وما تنص عليه القوانين والاعراف الدولية التي اقرتها منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات واللجان التابعة لها.
أن إيران لا زالت متمسكة بسياسة إظهار القوة رغم إعلانها عن احترام إرادة الشعب السوري وحرية اختياراته التي عبر عنها بيان وزارة الخارجية الإيرانية في التاسع من كانون الأول 2024، ولكن المواقف التي أعلنها ويتحدث بها خامنئي تبتعد كثيرًا عن النهج الدبلوماسي والمفردات التي صاغها بيان الخارجية الإيرانية، ومعلوم أن النظام الإيراني يستند إلى توجيهات المرشد الأعلى كونه المشرف على جميع القضايا المتعلقة بالأمن القومي الايراني والسياسة العليا للبلاد.
أن السقوط السريع للنظام السوري قد اربك فعالية القيادة العسكرية والأمنية الإيرانية في الداخل السوري وأوقف العديد من المهام الاستراتيجية التي كانت القيادات الميدانية لفيلق القدس والحرس الثوري تعتمد عليها في تنفيذ مهامها وأصبحت عاجزة عن الايفاء بالتزاماتها تجاه حلفائها ودرة تاج مشروعها الإقليمي حزب الله اللبناني، وهو ما أشار إليه نعيم قاسم الأمين العام الجديد لحزب الله بقوله ( ان الحزب فقد طريقه لتأمين موارده العسكرية من خلال سوريا بعد سقوط بشار الأسد)، حيث كانت جميع الموارد المالية والتجهيزات العسكرية والمعدات الثقيلة والصواريخ متوسطة المدى تأتي إليهم عبر الأراضي السورية أو المطارات العسكرية والمدنية التابعة لهيئة الطيران السوري.
ولطبيعة الاحتفال المركزي المتعلق بمقتل قاسم سليماني، فلم يستطع علي خامنئي إلا أن يستذكر النهج والسلوك القتالي والتعبوي الذي اعتمده سليماني في علاقته مع الساحات العربية التي كانت تحت التأثير الإيراني عندما حدد مهامه الأمنية التي راعت تنفيذ المشروع الاقليمي الإيراني باشارته إلى ( أن قاسم سليماني كان يستخدم إمكانيات شباب الدول في المنطقة لإحياء جبهة المقاومة وكان يعمل على تعبئتهم)، وهذا ما يخالف ما قاله في الاحتفالية الدينية التي أقيمت في مدينة طهران بتاريخ 22 كانون الأول 2024 بأن إيران ليس لها وكلاء أو شركاء في المنطقة.
أن القيادة الإيرانية تعلم جيدًا ان هناك قرارًا لعديد من الدول الكبرى يدعو إلى مواجهة وتفتيت جميع القدرات القتالية للمجاميع والمليشيات المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني وإيقاف سياسة التمدد النفوذ والتدخل في الشؤون الداخلية لعديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة