مستقبل الاقتصاد العراقي: طريق نحو التنمية المستدامة والتنوع الاقتصادي

مستقبل الاقتصاد العراقي: طريق نحو التنمية المستدامة والتنوع الاقتصادي

الباحثة شذى خليل
يعد العراق، البلد الذي طالما ارتبط اسمه بثروات النفط، الآن عند مفترق طرق اقتصادي حاسم. مع ثروات طبيعية تتجاوز قيمتها 16 تريليون دولار، مما يضعه في المرتبة التاسعة عالميًا من حيث احتياطيات الموارد، يمتلك العراق القدرة على تحويل اقتصاده من الاعتماد على النفط إلى اقتصاد متنوع ومستدام. وقد كان المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، صريحًا في التأكيد على أن مستقبل البلاد الاقتصادي يعتمد على تحويل ثرواتها الطبيعية إلى أصول رأس مالية منتجة. ويؤكد أن هذا التحول سيكون أمرًا أساسيًا لنمو البلاد على المدى الطويل وتحقيق التنوع الاقتصادي.
نطاق ثروة العراق من الموارد الطبيعية
يعتمد مستقبل العراق الاقتصادي بشكل كبير على قدرته على إدارة ثرواته الطبيعية الهائلة. مع واحدة من أكبر احتياطيات النفط والغاز، يتربع العراق على قمة التصنيفات العالمية من حيث كثافة الموارد الطبيعية لكل كيلومتر مربع. ومع ذلك، وعلى الرغم من الأهمية الاستراتيجية للعراق في أسواق الطاقة العالمية، إلا أن اقتصاده المعتمد على النفط غالبًا ما يتميز بعدم الاستقرار، حيث أن تقلبات أسعار النفط أو عدم الاستقرار السياسي تؤثر بشكل كبير على نمو البلاد.
في السنوات الأخيرة، أصبح من الواضح للحكومة العراقية أن المستقبل لن يعتمد فقط على صادرات النفط. بدلاً من ذلك، يجب أن يكون هناك رؤية أوسع حول كيفية استثمار الثروات الطبيعية للعراق. تشمل هذه الموارد المعادن، والإمكانات الزراعية، وغيرها من الأصول غير المستغلة التي يمكن أن تحفز التحول الاقتصادي الأوسع.
كما يشير صالح بشكل دقيق إلى أن ثروات العراق الطبيعية تمثل ليس فقط سلعا خامًا، بل فرصًا غير مستغلة لتحفيز التنوع الصناعي وسلاسل القيمة المضافة. من خلال تصنيع المنتجات من هذه الموارد الطبيعية، يمكن للعراق خلق سلاسل قيمة تتجاوز الاستخراج والتصدير. وهذا من شأنه أن يساعد في زيادة الدخل الوطني، وتقليل الاعتماد على صادرات النفط، وتوليد الفرص من أجل التنمية المستدامة.
ضرورة التنوع الاقتصادي
تعتمد اقتصاديات الدول التي تعتمد بشكل كبير على النفط على تصدير الخام كمصدر رئيسي للإيرادات، وهو ما يمثل ضعفًا كبيرًا في اقتصادات هذه الدول. يساهم النفط بأكثر من 90% من صادرات العراق وإيراداته العامة، مما يجعله عرضة للاضطرابات الاقتصادية الناتجة عن تقلبات أسعار النفط. في حين أن النفط سيظل قوة مهيمنة في الاقتصاد العالمي، إلا أنه لم يعد من الحكمة بالنسبة لدولة مثل العراق أن تضع كل آمالها الاقتصادية في قطاع واحد، خاصة بالنظر إلى التحولات العالمية طويلة المدى نحو الطاقة البديلة.
التنوع الاقتصادي ليس مجرد خيار للعراق، بل ضرورة. يجب على الحكومة العراقية أن تتخذ خطوات جريئة لاستكشاف وتطوير القطاعات البديلة. ويؤكد صالح أن تجاوز النفط والغاز يتطلب تغييرًا في طريقة هيكلة الاقتصاد العراقي. يشمل هذا إعادة التفكير في كيفية استثمار الموارد المتنوعة بخلاف النفط والغاز، وتطوير الصناعات التي يمكن أن تحل محل الواردات وتساهم في الصادرات.
نهضة التصنيع
تعد واحدة من أكثر الطرق الواعدة لتنويع الاقتصاد العراقي من خلال التصنيع. توفر أراضي العراق الخصبة وموارده المعدنية والطبيعية أساسًا قويًا لعدد من الصناعات مثل المنسوجات، الأسمنت، المواد الكيميائية، ومعالجة المنتجات الزراعية.
من خلال معالجة المواد الخام محليًا وتحويلها إلى سلع تامة الصنع، يمكن للعراق أن يخلق مجموعة واسعة من المنتجات ذات القيمة المضافة للأسواق المحلية والدولية. يحمل القطاع الزراعي، على وجه الخصوص، إمكانات هائلة. يتمتع العراق بأرض خصبة تعد من بين أغنى الأراضي في الشرق الأوسط، ويمكن أن يساعد الإنتاج الزراعي في تلبية الطلب المتزايد على الغذاء محليًا وإقليميًا. ومع ذلك، يكمن التحدي في معالجة نقص الاستثمار في هذا القطاع واستخدام التكنولوجيا القديمة التي يمكن تحديثها لتحسين الغلال والكفاءة والاستدامة.
على سبيل المثال، يمكن للعراق تطوير الصناعات التي تقوم بمعالجة منتجاته الزراعية الخام مثل التمور والقمح والشعير إلى منتجات ذات قيمة مضافة مثل العصائر والزيوت والمنتجات الغذائية المعلبة. وهذا لن يقلل فقط من اعتماد العراق على الواردات الغذائية، بل سيساهم أيضًا في خلق وظائف، وتشجيع الابتكار، وتوسيع محفظة الصادرات.
وبالمثل، يمكن أن تشكل الموارد المعدنية في العراق مثل الكبريت والفوسفات والجبس أساسًا لصناعة المواد الكيميائية ومواد البناء. إن صناعات استخراج المعادن ومعالجتها تحمل إمكانات كبيرة لدعم مشاريع البنية التحتية المحلية والأسواق التصديرية.
نموذج اقتصادي جديد: من الاستخراج إلى الاستثمار
لتحقيق التنوع الاقتصادي، يجب على العراق اعتماد نموذج اقتصادي شامل يركز على الاستخدام الاستراتيجي لموارده. سيتطلب ذلك استثمارات كبيرة في القطاعين العام والخاص. سيكون الاستثمار في القطاع العام، خاصة في البنية التحتية والتعليم، أمرًا بالغ الأهمية لوضع أساس للنمو المستدام. من جهة أخرى، يجب تشجيع القطاع الخاص على لعب دور نشط في بناء هذه الصناعات من خلال السياسات المواتية، والإصلاحات التنظيمية، والحوافز.
يشير صالح إلى أن هذا النموذج لـ “تحويل الموارد الطبيعية إلى أصول رأس مالية منتجة” يتطلب إعادة توجيه شاملة لاستراتيجية الاقتصاد العراقي. يجب على الحكومة أن تعطي الأولوية للقطاعات خارج النفط والغاز، وتقديم الحوافز لتطوير القطاع الخاص في الصناعات التحويلية والزراعة وغيرها من القطاعات الناشئة.
في الوقت نفسه، يجب على العراق استثمار المزيد في تحديث رأس المال البشري. ستكون برامج التعليم والتدريب المهني أمرًا أساسيًا لضمان أن يكون لدى القوى العاملة العراقية المهارات اللازمة لدفع النمو في الصناعات الجديدة. كما سيساهم تطوير المهارات التقنية وريادة الأعمال في تعزيز إنشاء الشركات الصغيرة والمتوسطة (SMEs)، وهي ضرورية لخلق فرص العمل والديناميكية الاقتصادية.
التنمية المستدامة: طريق نحو النمو طويل الأمد
لخلق نمو مستدام، يجب على العراق أيضًا معالجة التحديات الكبيرة المرتبطة بالاستدامة البيئية، وإدارة الموارد، والحكم الرشيد. إن استغلال الموارد الطبيعية دون رقابة قد يؤدي إلى تدهور البيئة، ونضوب الموارد، والصراعات. لذلك، يجب أن يقترن التحول الاقتصادي للعراق بسياسات قوية تضمن الحفاظ على البيئة على المدى الطويل.
بالإضافة إلى ذلك، سيكون الاستقرار السياسي للعراق أمرًا حاسمًا لضمان نجاح هذا التحول. إن الإصلاحات الاقتصادية اللازمة للاستفادة من الموارد الطبيعية للعراق لن تنجح إلا في بيئة من الاستقرار والشفافية في الحكم. يجب على الحكومة العمل على تحسين كفاءة القطاع العام، وتقليل الفساد، وبناء الثقة مع المستثمرين والمواطنين على حد سواء.
الخاتمة: الطريق إلى الأمام
يعيش الاقتصاد العراقي مرحلة فاصلة. تمثل الموارد الطبيعية الكبيرة للعراق إمكانيات هائلة لتحفيز النمو والتنمية، ولكن فقط إذا تعاونت الحكومة والقطاع الخاص لتحويل الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط. من خلال الاستثمار في التصنيع والزراعة والقطاعات الأخرى، يمكن للعراق بناء اقتصاد ديناميكي ومستدام يقدم الفرص للأجيال القادمة.
توفر رؤية مظهر محمد صالح لـ “نهضة الموارد الطبيعية” خطة واضحة لمستقبل العراق. من خلال تحويل موارده إلى أصول منتجة، يمكن للعراق بناء اقتصاد مزدهر ومتعدد القطاعات يثبت أمام تحديات الزمن. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا التحول يتطلب قيادة جريئة، واستثمارات استراتيجية، وإرادة قوية لبناء أساس اقتصادي أكثر مرونة واستدامة.

 

الوحدة الاقتصادية / مكتب شمال امريكا

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية