في رواية أقل شهرة، “كلاوديوس بومبرناك”، يصف الروائي جول فيرن مغامرات المراسل الأجنبي الذي سميت الرواية باسمه بينما يسافر على “سكة الحديد الكبرى العابرة للحدود” من “الحدود الأوروبية” إلى “عاصمة الإمبراطورية السماوية”. وثمة فريق من الشخصيات الدولية، الكوميدية بدورها والفضولية والظلية، التي تصاحب الصحفي الفرنسي في القطار من بحر قزوين إلى بكين، ويفلت المسافرون بالكاد من العصابات ليقوموا بتسليم حمولة غامضة.
عندما نُشرت الرواية أول الأمر في العام 1893، كان الكتاب رواية خيالية مستقبلية. لم تكن هناك سكة حديدية متصلة تمر عبر أوراسيا. وليست هناك واحدة حتى هذه اللحظة. لكن الصين أصبحت تستشرف الآن، بعد 125 عاماً، تمويل وبناء مثل هذه الطرق البرية (وبقطارات أسرع بكثير). وسوف يشكل ذلك جزء “الحزام” مما تسميه الصين مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”: حيث تقوم أيضاً بإنشاء سلسلة من الموانئ الجديدة، من بحر الصين الجنوبي وعبر المحيط الهندي إلى إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.
أعداد وحجوم المشاريع المقترحة هائلة تخطف الأنفاس، وتتجاوز بكثير حتى مخيلة كاتب قصص الخيال العلمي. وقد أثارت الرهبة، والشكوك السوداء في كثير من الأحيان، بين العديد من المراقبين الأجانب.
تماماً بعد أن كان فيرن يكتب روايته، كانت شركات أجنبية تقوم ببناء أول سكك حديدية صينية رئيسية، والتي كانت تموَّل بالقروض الأجنبية لسلالة تشينغ شبه المفلسة. وفي غضون عقدين، أشعلت الصراعات على الملكية الأجنبية لسكة الحديد الصينية ثورة أطاحت بتلك السلالة في العام 1912. واليوم، أصبحت الضحية السابقة لإمبريالية السكك الحديدية الغربية تقوم بإقراض مليارات الدولارات لبلدان في جميع أنحاء آسيا وأفريقيا وأوروبا –وليس لبناء سكك حديدية فحسب، وإنما لبناء الطرق السريعة، والموانئ، ومحطات الطاقة وأنواع أخرى من البنية التحتية.
كان التقدم الاقتصادي الذي حققته الصين على مدى القرن الماضي مذهلاً، وأخرج مئات الملايين من الصينيين من ربقة الفقر. ولذلك، عندما تعرض الحكومة الصينية تقاسم خبرتها في التنمية –وهي ثيمة سائدة في خطبها ووثائقها الرسمية- فإنها يجب أن تُؤخذ على محمل الجد.
لكن الأصداء التاريخية تبدو مقلقة. فقد وافقت سريلانكا، غير القادرة على سداد مبلغ 8 مليارات دولار التي تدين بها لمؤسسات تمتلكها الحكومة الصينية مقابل بناء بنية تحتية رئيسية في أراضيها، وافقت مسبقاً على تأجير مينائها في هامبانتوتا للصين لمدة 99 سنة. وهذه بالضبط هي الفترة التي كانت سلالة تشينغ قد أجرَّت بها ميناء استراتيجياً آخر، هونغ كونغ، للبريطانيين في ظروف تلخص الكولنيالية.
وهكذا، يتساءل المرء: هل تمثل الصين نموذجاً جديداً للتنمية لعالم يمكن أن يستخدم واحداً، أم أن “حزام واحد، طريق واحد” هو في حد ذاته الاستعمار الجديد؟
لأن هذه السكك الحديدية والمشاريع الأخرى تتطلب الأمن، فإنها تقوم بتوسيع الوصول السياسي للحكومة الصينية إلى آسيا الوسطى، وباكستان والشرق الأوسط. وبينما تقوم بكين بتحويل بحر الصين الجنوبي إلى لعبة “داما” هائلة حيث عليك محاصرة مربعات الخصم واحتلالها، فإن موانئها الجديدة في بنغلاديش، وسريلانكا وباكستان، وربما المالديف، تشرع في أن تبدو مثل مربعات لعب إضافية.
يبدو حديث الصين الجميل عن التنمية والتعاون أشبه بغطاء لهجوم استراتيجي، وهو كذلك بالتأكيد. ولكن، إلى جانب الاستثمار مالياً في البنية التحتية، فإن مبادرة “حزام واحد، طريق واحد” تستثمر أيضاً في هيبة الصين من خلال إرسال رسالة كونية تردد كل النغمات الصحيحة –السلام، التسامح متعدد الثقافات، والازدهار المتبادل- ويحدد هذا الخطاب المعايير التي يمكن من خلالها محاسبة الصين.
قامت الحكومة الصينية بإطلاق هذه المبادرة مع الكثير من الجلبة ونفخ الأبواق، وعرضتها في شكل المشروع المعلَمي الذي يعرِّف سياسة الرئيس شي جين بينغ الخارجية، وفي المقابل، عامل الخارجيون المبادرة كمشروع متآلف. وفي الحقيقة، تتكون المبادرة من عدة عناصر: ثقافية، ودبلوماسية، وتنموية، بالإضافة إلى العناصر التجارية والاستراتيجية. ولا يمكنك في الحقيقة أن تبدي الإعجاب -أو عكسه- بالحزمة بكاملها، لأن “حزام واحد، طريق واحد” ليست أقل من تغيير العلامة التجارية لكامل السياسة الخارجية للصين، بكل تعقيداتها.
على سبيل المثال، يشكل استكمال خطوط المعالم البارزة مكوناً ثقافياً عادة ما يتجاوزه المراقبون: العديد من البرامج المدرسية، والتبادلات الثقافية، والعروض الفنية، ومعارض المتاحف، والعروض الموسيقية، وحفلات الرقص، والاستكشافات الأثرية، ومناسبات التعاون مع منظمة اليونسكو. وتلعب هذه التمديدات للقوة الناعمة الصينية على فكرة “طريق الحرير”، التي تمثل ذلك العصر الذهبي الأسطوري القديم للتجارة غير المقيدة، والتآزر بين الثقافات. وفي الحقيقة، لم يكن هناك أبداً “طريق حرير” واحد مفرد (ولا طرق متعددة) تربط الشرق بالغرب، والتي يمكنك أن ترسمها على خريطة؛ وبدلاً من ذلك، تفرعت التجارة في شبكات عبر كامل نطاق أوراسيا –كما فعلت في الأماكن الأخرى. وقد لعبت مكائد الإمبراطوريات دائماً دوراً أكبر في تعزيز التبادلات مما فعل التجار الأفراد المقدامون.
لكن فكرة “طريق الحرير” (على النقيض من فكرة “اللعبة الكبرى” على سبيل المثال) ليست مهدِّدة، وإنما هي رؤية ملونة بالجِمال والأسواق المليئة بالسلع والكماليات الغريبة والمثيرة. وقد ربطت الصين سياستها الخارجية بذكاء بأسطورة تاريخية بهيجة، والتي توحد الشعوب الأفرو-أوراسية. وهي حكاية يمكن سردها –حرفياً- كقصة تحُكى وقت النوم عن “المشاركة” والزرافات.
بالنسبة للمتشائمين، فإن هذا كله لا يعدو كونه حلوى دعائية مغلفة بالسكر إلى حد كبير. لكن الصين تتحدث بصوت عالٍ الآن أيضاً بلغة التنمية الدولية؛ وقد أعلنت أنها تخطو صعوداً لتكون مواطناً عالمياً خيِّراً صالحاً معنياً بالرفاه الاقتصادي لجيرانه. وسواء كانت مخلصة في ذلك أم لا، فإن الرسالة تبقى فوق-قومية على الأقل، وتتسامى عن الحدود الوطنية، في تناقض صارخ مع الحمائية أو كراهية الأجانب اللتين يعرضهما الرئيس دونالد ترامب والأيديولوجيات القومية الصاعدة في أوروبا والهند وأماكن أخرى.
ربما كانت دعوة إدارة الرئيس جورج دبليو بوش للصين في العام 2005 إلى أن تصبح “صاحب حصة مسؤول” في الشؤون العالمية تعرض نوعاً من الفوقية، لكنها كانت أيضاً بعيدة النظر. وتشكل مبادرة “حزام واحد، وطريق واحد” إجابة بكين الكاملة وبملء الصوت على ذلك التحدي –حتى مع أنها تؤكد استقلال الصين عن النظام العالمي المتمركز حول أميركا، أكثر من كونها تتقارب معه.
هل يشكل نهج جديد، ينتهجه لاعب جديد، شيئاً سيئاً؟ لقد اتسمت الأرثوذكسية الاقتصادية التي فرضها منذ وقت طويل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذان تهيمن عليهما الولايات المتحدة على الدول التي تعاني من أزمات –في حزمة إصلاح تعرف باسم “إجماع واشنطن”- اتسمت بسجل مختلط في أحسن الأحوال. وفي أفريقيا، على سبيل المثال، ما يزال الاستثمار الغربي صغيراً، بالنظر إلى حجم القارة وسكانها واحتياجاتها.
من جانبها، تبنت الصين أفريقيا. وعلى الرغم من أن بعضاً من مشاريعها تملقت دكتاتوريين فاسدين من أجل الحصول على المواد الخام الأفريقية، فإن أخريات أنتجت منافع اقتصادية ملموسة محلياً. وبالإضافة إلى ذلك، برهن بعض المستثمرين الصينيين الحكوميين والشركات الصينة استعدادهم لخوض المخاطرات التي تجنبتها الشركات والبلدان الغربية بشكل ثابت.
سوف تكون بعض مشاريع “طريق الحرير” الصينية غير مجدية، وإنما تعطي الانطباع الظاهري بالقيمة. وسوف ينتج بعضها منافع اقتصادية حقيقية. وربما تكون بضعها فعالة في خفض الفقر. وسوف تروج بعضها وتعزز الدولة الصينية ومصالح الشركات. وليست مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، بوجوهها العديدة، مؤامرة شريرة للهيمنة العالمية، ولا هي الجواب لكل مشكلات العالم. وعلينا أن نقيم مشاريعها بشكل فردي، وأن نقارنها بالهدف الذي وضعته المباردة الأوسع لنفسها: بناء مستقبل أفضل يقام على غرار ماضٍ أسطوري مثالي.