استيراد الاموال العربية المنهوبة

استيراد الاموال العربية المنهوبة

الحروب والمجازر الجارية في منطقتنا بتقاطعاتها وتناقضاتها العجائبية يتوجب لفهمها النظر إلى مكونيها الـ”ميكرو” و”الماكرو” في آن واحد كونهما يتداخلان “سياسيا” في منطقتنا منذ قرون بقدر ما يتداخلان في الاقتصاد، وبعض أهم ما سنتحدث عنه باعتباره مؤثرا أو حتى مسببا لما يجري هو في حقل الاقتصاد والمال, وفي جزئه الأخطر وهو “الفساد”.

وقبل الغوص في هذا لا بد أن نمر بعجالة على “الأطماع الإمبراطورية” التي شاعت إلى حد الابتذال, والحديث عن الإمبراطوريات “الماكرو” بدءا من عمق التاريخ بذكر إمبراطورية الإسكندر المقدوني والإمبراطوريات الرومانية والفارسية والأموية والعباسية والمغولية والعثمانية والروسية.. وصولا للإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس (مهمشة بذلك معاصراتها الفرنسية والهولندية والبلجيكية والروسية) والتي آلت وراثتها للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع أن الولايات المتحدة لا تتخذ مسمى الإمبراطورية، ولكن المسمى ينطبق عليها كونه يعني توسيع نفوذ دولة لخارج حدودها الأصل.

هذا عن الشائع، ولكن الأهم المغفل هو كون “الإمبراطورية” تجسد نزعة سيطرة عند الحكام وصلت عند بوش الابن إلى حد زعمه أنه كليم الله ويتلقى تعليماته! وفي إيران انتحل ضابط وصل للحكم بانقلاب تسمية “إمبراطور” (ملك الملوك)، وشاهنشاه إيران ليس لا أول ولا آخر من تنامت لديه أحلام إمبراطورية “ميكرو” فيما هو يتبع إمبراطورية “ماكرو” كبريطانيا ومن بعدها أميركا.

والإمبراطوريات تقوم بإغراء فائض القوة لصاحبها، ومع أن أحد أهم أهداف التوسع الإمبراطوري استغلال ثروات مستعمراتها فإن تكدس الثروات المنهوبة لديها يتحول بحد ذاته لإغراء جديد لتوسع ونهب أكثر

فمشكلة المال -إن تجاوز أرقاما معقولة تترجم لفارق حقيقي في “نوعية الحياة”- أنه يتحول لإدمان نفوذ وغلبة، و”الميكرو” أباطرة ينهبون بأرقام فلكية كون بعضها يلغي بعضها الأكبر في محاولات غسلها، وهذا ما يشجع أباطرة المال في الغرب (فالحكم لا يتيح الإثراء في الديمقراطيات الغربية) على إشعال حروب خارجية واحترابات داخلية في مستعمراتها أو ما تسمى “مناطق نفوذها”، ومن هنا أهمية الحديث عن أباطرة “الميكرو”.

وخير مثال على هذا “الميكرو” إمبراطور نجده في علي عبد الله صالح الذي قمع تمرد جنوب اليمن عليه، و”احتله” بقوة السلاح لينهب شقي اليمن على امتداد 33 سنة، مما أنتج فقرا وبطالة وغياب تنمية وتدهور خدمات.. وفي النهاية أدى لحتمية اندلاع ثورة في اليمن ككل ثورات الربيع العربي على الحكم الإمبراطوري “الماكرو” الملحق بالمنظومة المالية الدولية، والبنوك التي باتت بيوت مال الدول الغربية, وتحتل أميركا قمة منظومتها رغم قيام الاتحاد الأوروبي.

وسيقول البعض إنه حكم “الصهيونية العالمية”، ولكن هذا لا يحدث فرقا كون أميركا هي “الدولة” ذات الاقتصاد المهيمن ودولارها هو العملة الدولية التي تسعر بها التجارة العالمية والسلع الإستراتيجية كافة, بل والعملات الأخرى بما فيها اليورو.. ولسنوات قليلة مضت كان جيشها لا يزال من يقود حروب الاحتلال أو يقوم بها منفردا أو شبه منفرد، ولحينه ما زال ذلك الجيش هو ما تضغط المعارضة الجمهورية باتجاه تحريكه للتدخل في منطقتنا تحديدا!

والأهم أن أميركا -وبعكس أوروبا- هي الأقل احتياجا لثروات وأسواق غيرها, فهي تقريبا قارة غنية بكل أنواع الثروات الطبيعية بما فيها الطاقة، وهذا يجعلها أقدر على تنفيذ تعهداتها إن صدقت فيها.

وقد يكون تحول أميركا العقلاني لأسباب تتعلق بإنجاز اتفاقها مع إيران، ثم لاحتواء غضب حليفتها السعودية التي صدمها الاتفاق وردت عليه في اليمن, وليس فعل خير للشعوب العربية، ولكن ما يهمنا هو أنها فعّلت لأول مرة آلية التحقيق الحثيث في الأموال التي اختلسها الرئيس اليمن المخلوع صالح وأسرته وأودعوها في الخارج.

ولمعرفة أهمية الاختراق الذي حققته أميركا بشأن تتبع الأموال المنهوبة نعيد القارئ لما تداعت له دول مجموعة “الثماني الكبار” في دوفيل بفرنسا عام 2011 لتشكيل ما سمتها “شراكة دوفيل” مع الدول العربية التي” تمر بمرحلة تحول لمجتمعات حرة وديمقراطية ومتسامحة”، وذلك حين فاجأها الربيع العربي بإسقاطه في أقل من عام أربعة أنظمة عربية.

وواضح أن مجموعة “الثماني الكبار” فوجئت بما يجري في العالم العربي ولم يكن لها يد فيه ولا مشورة، كما حاولت أن تروج لاحقا للإيحاء لنا بأن لا شيء يجري في “حدائقه الخلفية” دون معرفتها، وحيث حاول “حلف الأطلسي” التدخل في ليبيا جاءت النتيجة كارثية تحديدا على أميركا وسفارتها، وهو ما أفقد في النهاية السيدة كلينتون التي اعتبرت مسؤولة مباشرة عنه منصبها كوزيرة خارجية، وإن لم يفقدها فرصتها في الترشح للرئاسة ولكنه حتما سيصعب كثيرا وصولها لها.

وما يؤكد أن مجموعة “الثماني الكبار” تداعت فارغة الأيدي للتداول في كيفية الحفاظ على مصالحها أن “شراكة دوفيل” لم تبرم حتى 19 مايو/أيار 2012 في كامب ديفد. ونص اتفاقية الشراكة كان أقرب لصك “انتداب” كالذي غلف به استمرار الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية مع تكرار دعم الأنظمة “لتطوير حاكميتها”.

والبعض من الشركاء العرب في الاتفاقية -كالإمارات وقطر- ليسوا بحاجة لزعم دعم هؤلاء لهم كونهم لم يكونوا مهددين بثورة ربيع, ولا بحاجة “لخبرات” في الإدارة الحكومية أو الاقتصاد كون الدولتين كانتا سباقتين لتطبيق خططهما المزدهرة.
ويضاف لهاتين السعودية والكويت من حيث انعدام الحاجة للمعونات الغربية الشحيحة أو حتى لنصائح “الخبراء المتطوعين” (مجانا!)، وحتما لا حاجة لهؤلاء الشركاء الأربعة لتزكية من مجموعة الثماني الكبار وصندوق نقدها يحصلون بها على القروض التي وحدها “السخية” بما ضخم-كمثال- مديونية الأردن لثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 2011!

وبالنظر لجدول الإصلاحات التي سترعاها وتُعين عليها مجموعة الثماني الكبار باسم “الحاكمية الرشيدة” نجد المؤشر الإصلاحي بمختلف مكوناته تراجع وبشكل غير مسبوق في أغلب الدول العربية الشريكة وتحديدا في شأن الشفافية والمحاسبة على المال العام والثروات الوطنية وثيق الصلة بموضوع مقالتنا هذه.

واللافت أنه في ما يتعلق بالأنظمة الأربعة “المستجدة” بفعل ثورات الربيع العربي لا شيء تغير غير مباركة الثماني الكبار للقادمين الأربعة الجدد للحلول محل سابقيهم, وإطلاق وعود بمعونات ومبالغ زهيدة لاستثمارات تخلق فرص عمل للشباب الثائرين لم تنفذ.

لكن الأهم الذي لم ينفذ لحينه هو استعادة الأموال المنهوبة، و”الفصل” الخاص بهذا جرى تمييعه بدمجه مع “شراكة الحكومة المنفتحة” (OGP) التي أعلنت أيضا في أيلول/سبتمبر 2011، وتضم إلى جانب الولايات المتحدة ومورثتها بريطانيا وبلجيكا (التي شملت إمبراطورتيها الكونغو البلجيكية ورواندا وبوروندي المرفق تاريخها لنهاية القرن الماضي بمآس كبرى) دولا “عالمثالثية”، بعضها يعاني من فساد يصل لحد اتهام السلطات في إحداها (المكسيك) بالتواطؤ مع مافيات على خطف وقتل طلبة! والأردن كان أول دولة عربية تُقبل في تلك الشراكة، تلته تونس ويفترض أن يليهما لبنان.

وجرى خلط “الفصل” أيضا بجر أجسام ميتة له تعلق عليها متابعة الأموال المنهوبة تلك, منها “مبادرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائية لمكافحة الفساد للدول العربية”, و”الشبكة العربية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد” التي أسست عام 2008 بعضوية 16 دولة عربية ومشاركة ورعاية عدة منظمات دولية في مقدمتها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومدى حيوية وفاعلية هذه الشبكة تظهر حقيقة أن دورة أعمالها الثانية لعامي 2010-2011 كانت أطلقت برئاسة اليمن!

الصراع والحرب في اليمن لا علاقة لهما بصالح الذي فر بعد بمحاولة اغتياله ليتعالج في الرياض, وختم إخراجه بالمبادرة الخليجية التي وقعها مرغما بواقع الحال، ولكن ما يوظفه صالح الآن ليس جيشا يناصره ولا حوثيين يؤيدون عودته، بل بعض الأموال التي نهبها لتأمين عودته للحكم، وحين تناهز الأموال المنهوبة الستين مليار دولار فإن هذا حري بدفع صالح للاعتقاد أنه إمبراطور مال.

فالرقم لم يطرح من أي جهة ولا حتى كوعد لن ينفذ لإعمار دول الربيع كافة, بل ولم يجر الالتزام بإعادة هذا القدر من منهوبات الأنظمة الأربعة المخفية في الدول الغربية ودول “مناطق نفوذها”، وصالح لا يملك فرصة للعودة تغري أي جهة عاقلة لدعمه، ولكن ما فعله أنه أنتج فقط “مزاودة ” ترفع تكلفة أي حل في اليمن.

ومرة أخرى نجد حزما وحسما وموقفا عقلانيا من إدارة أوباما، فبدل تحريك قواتها والغوص في وحل حرب أخرى كحرب أفغانستان إرضاء لحليفتها السعودية شرعت أميركا في معاقبة صالح بتفعيل فريق من الخبراء كان تشكل بموجب القرار رقم 2140 الصادر عن مجلس الأمن في فبراير/شباط 2014، لمساعدة لجنة دولية مسؤولة عن تنفيذ العقوبات المنصوص عليها في ذلك القرار، وتحديدا ما ورد في المادة الـ11 منه بتجميد الأصول العائدة لكل من يعتبر ضالعا في تهديد أمن واستقرار اليمن

وهذا القرار ظل شكليا لأكثر من عام ككل وسائل تحصيل الأموال المنهوبة، وفجأة وفي غضون أيام وبطلب من الإدارة الأميركية تحركت اللجنة لمخاطبة عشرين دولة يعتقد بوجود أصول فيها لصالح وكامل المدرجين على قائمة العقوبات مطالبة إياها بتجميد تلك الأموال، والتجميد سيتم بمجرد طلبه, كون حتى الدول غير الملتزمة بقواعد الشفافية لن تجازف بتحمل مسؤولية تسريب الأموال منها حين يثبت وجودها.

وأميركا قدمت نفسها كقدوة، إذ حصرت قائمة العقارات في واشنطن ونيويورك والتي كانت مسجلة بأسماء أبناء صالح، ورغم أن ملكية تلك العقارات نقلت قبل أشهر لآخرين من أقارب صالح جرى التعامل معها باعتبارها أموالا يمنية منهوبة.

وتبدي دول أوروبية تجاوبا مماثلا مع لجنة الخبراء، فيما تقول مصادر في الخارجية الأميركية إنها طلبت من البيت الأبيض فتح موضوع الأموال اليمينة المنهوبة مع القادة الخليجيين في القمة المقرر عقدها بكامب ديفد منتصف مايو/أيار المقبل.

بغض النظر عن كم سيستعاد من تلك الأموال ومتى, فإن إدارة أوباما تكون وقفت مع حلفائها وكسبت معركة اليمن دون أن تطلق رصاصة أو تضحي بجندي واحد.. في الوقت الذي أغلقت فيه فرص اندلاع حرب في الشرق الأوسط قد تصل إلى نووية وتؤدي لتورطها أو خسارة مناطق نفوذ لها فيه لصالح روسيا وآخرين.

لم تكسب الشعوب العربية المنهوبة حربها ضد الفساد والقمع، ولكنها كسبت معركتين فيها: الأولى معركة من معارك استرداد ما نهب من ثرواتها، فالأمر أصبح ليس ممكنا فقط, بل أصبح متاحا بسابقة سجلت في التاريخ ولن تنمحي.

المعركة الثانية متصلة بالجانب العسكري، فالشعوب تسحق في حروب “الميكرو” إمبراطوريات أو بعض فلولها الممولة بالملايين والمليارات المنهوبة، وما جرى سيضعف ثم يجفف مصادر تمويل هذه الحروب بدءا بأكبرها: داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وفروعه, وصولا إلى معارك تفتعل بين طوائف وعشائر قسمت لها الشعوب لتعود الأمة إلى جاهليتها.

توجان فيصل
الجزيرة نت