احتفل الأوروبيون بيوم أوروبا، والذى يعكس تطور الاندماج الأوروبى منذ إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب عقب الحرب العالمية الثانية والسوق الأوروبية المشتركة ثم الاتحاد الأوروبى الذى بدأ بـ14 دولة وصار يضم 28 دولة، وكانت المبادرة الفرنسية بإنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، والتى تضم إلى جانب فرنسا كلا من ألمانيا الغربية وإيطاليا وبلجيكا ولكسمبرج وهولندا، تستهدف أولاً منع قيام حرب جديدة فى أوروبا، وثانيًا البحث فى إمكانيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية داخل أوروبا بمعنى خلق مصالح مشتركة بين مواطنى تلك الدول، حيث يرون أن تحقيق مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والمالية يقتضى وجود سلام واستقرار دائمين، ولقد تطور الاندماج الأوروبى إلى أن صار يشبه الفيدرالية الأوروبية؛ حيث يوجد البرلمان الأوروبى فى بروكسل وتوجد المفوضية الأوروبية للسياسة الخارجية، كما يشكل حلف الناتو جناحًا عسكريًا للاتحاد، ويفخر الأوروبيون بوجود درجة عالية من المساواة بين الشعوب الأوروبية سواء المؤسسة أو المنضمة حديثًا من حيث حرية الانتقال والتملك والتجارة، كما أن الشعوب الأوروبية تلعب دورًا مهما فى صيانة الاتحاد الأوروبى حينما يطلب منها التصويت عليه، فيما عدا بريطانيا التى صَوَّت كبار السن فيها والمحافظون والمتشددون على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذى شكل صدمة للأجيال الجديدة فى بريطانيا، والتى تطالب بإعادة التصويت مرة أخرى للاستمرار فى عضوية الاتحاد.
هكذا يفخر الأوروبيون باندماجهم وتكاملهم بينما يشعر العرب بالأسى والحزن والإحباط ليس فقط لفشل التجربة الاندماجية العربية التى بدأت بإنشاء جامعة الدول العربية عام 1945، ولكن أيضًا لسقوط أكثر من 35% من الدول العربية، ووجود أكثر من 35% من الدول العربية الأخرى على وشك الفشل، بالإضافة إلى القيود الصارمة التى تكبل حركة المواطن العربى بين تلك الدول، ناهيك عن عدم قدرته على التملك أو الاتجار بأى درجة من الحرية فى غير بلده، ولا شك أن هذا التفاوت الضخم بين التجربة الأوروبية الناجحة والخبرة العربية الفاشلة يثير تساؤلات ضخمة حول ماهية الأسباب التى أدت إلى ذلك.
فمن ناحية، بدأت فكرة الاندماج العربى قبل وجودها فى أوروبا ووقع العرب اتفاقية الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى عام 1951، وهى الاتفاقية التي، إن كانت قد طبقت، كان يمكن أن يتحقق الأمن القومى العربي، وكان يمكن حماية الدولة الوطنية العربية من الانهيار، وبينما اتبعت أوروبا المنهج الوظيفى فى التكامل، كبلت الدول العربية نفسها بإخضاع التكامل العربى للقرارات السياسية والظروف السياسية دون غيرها، وبينما نجحت المصالح المشتركة فى توثيق عرى الاندماج الأوروبى أفشلت الخلافات السياسية العربية أى مفهوم للتكامل أو الاندماج، ومن ناحية أخرى، بينما اتبعت أوروبا المنطق التدريجى من منظمات متخصصة إلى سوق مشتركة فى الاقتصاد إلى اتحاد أوروبى أساسه الاقتصاد، ولكنه يرقى إلى التنسيق السياسي، بدأت التجربة العربية بالجوانب السياسية الخلافية ولم تنعكس بالضرورة على أى نوع من أنواع التكامل الاقتصادى أو المالى أو الإنساني، وبينما تبنت أوروبا استراتيجية التضمين Inclusive والتوسع بما فى ذلك ضم دول شرق أوروبا والاستعداد لضم دول أخرى بما فى ذلك دول وسط آسيا؛ فإن العرب تبنوا استراتيجية الاستبعاد، وإلى حد كبير العنصرية؛ حيث اقتصرت جامعة الدول العربية على الدول الناطقة بالعربية فقط، وفى الوقت الذى أنشئت فيه مجالس أقاليمية مثل مجلس التعاون لدول الخليج ومجلس التعاون العربى ومجلس التعاون لدول شمال إفريقيا؛ فإنها بنيت على منطق الاستبعاد وليس التضمين، وحتى مجلس التعاون الخليجى الذى كان يستهدف خلق فيدرالية خليجية بين الدول الست على وشك الانهيار بسبب الخلافات السياسية الجذرية بين السعودية والإمارات والبحرين من جانب، وقطر من جانب آخر، وبينما انعكس الاندماج الأوروبى إيجابيًا على مواطنى أوروبا دون تمييز، من ثم؛ لعب هذا البعد الإنسانى والثقافى دورًا مهما فى توثيق عرى التكامل؛ فإن محاولات التكامل العربى لم تمتد إلى الشعوب العربية، على العكس من ذلك؛ فإن لمواطنى بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة معاملة تفضيلية على المواطنين العرب داخل بعض الدول العربية.
ولقد صار للاتحاد الأوروبى دور رئيسى فى النظام الدولى الراهن الذى هو أقرب إلى التعددية القطبية، بينما فقد الوطن العربى ليس فقط دوره العالمي، وإنما أيضًا كيانه الإقليمى نظرًا لسقوط الدول العربية أسرى الخلافات والمنابذات السياسية، وفوق ذلك، بينما يوظف الاتحاد الأوروبى موارده لتوثيق التكامل البينى بما فى ذلك المساندة الاقتصادية غير المحدودة للدول التى تعانى من المشكلات الاقتصادية مثل اليونان حرصًا على بقاء الاتحاد والإعلاء من دوره الدولي؛ فإن الدول العربية قد أضاعت على النظام الإقليمى العربى فرصةً تاريخية حينما علا شأن النفط والغاز الطبيعى عالميًا، فبدلاً من استثمار هذه العوائد المالية الضخمة وغير المسبوقة فى التنمية العربية، تم تقسيم الوطن العربى إلى دول نفطية غنية ودول فقيرة تنتظر من شقيقاتها المساعدة صيانةً لمفهوم الأمة العربية والدولة العربية.
والحقيقة أنه بينما تعتز الدول الأوروبية بهويتها وسيادتها القطرية إلا أنها تعلى من شأن الهوية الأوروبية والكيان الأوروبى لأنه لا يوجد تناقض بين الدولة ككيان وطنى وأوروبا كنظام إقليمى مؤثر، إلا أن هناك معضلة داخل الوطن العربي، إذ لا توجد إلا مصر ككيان تكاملى وهوية وطنية واضحة لا تتناقض مع الهوية العربية، بينما تعانى بقية الدول العربية أولاً من مفهوم الكيان الوطني، وثانيًا من عدم اكتمال مفهوم الهوية الوطنية، وهكذا، انقسمت معظمها على أسس عرقية أو دينية أو مذهبية مما أودى بها، وكان يمكن الحفاظ على الكيانات الوطنية للدول العربية إذا تعلمت من الخبرة التاريخية المصرية فى الحفاظ على الكيان الوطنى والهوية الوطنية دون التفريط فى الهوية القومية العربية، بل وفوق ذلك؛ فإن مصر هى الدولة الوحيدة التى امتدت مساهمتها فى بناء مفهوم القومية العربية إلى حد التضحية والاستشهاد فى سبيلها وصد محاولات اختراقها، وهو الجهد الذى ما زالت تقوم به حتى يومنا هذا، وهو ما فشلت فيه دول عربية عديدة.
د.عبدالمنعم المشاط
الاهرام