إلى متى سنواصل التظاهر بأن الفلسطينيين ليسوا شعباً؟

إلى متى سنواصل التظاهر بأن الفلسطينيين ليسوا شعباً؟

كيف تم إلقاء اللوم على الفلسطينيين على نزوحهم قبل سبعة عقود، لأنهم اتبعوا تعليمات المحطات الإذاعية التي طالبتهم بمغادرة منازلهم حتى يتم إلقاء اليهود في البحر. سوى أنها لم تكن هناك، بطبيعة الحال، أي محطات إذاعية من هذا القبيل على الإطلاق.
*   *   *
وحشي. مخيف. شرير. من الغريب كيف نفدت الكلمات لوصف حال الشرق الأوسط اليوم. ستون فلسطينياً قُتلوا. في يوم واحد. ألفان وأربعمائة جريح، أكثر من نصفهم بالرصاص الحي. في يوم واحد. هذه الأرقام سبب للغضب، وتحوُّل عن الأخلاق، وعار على أي جيش يتسبب بها.
ويُفترض فينا أن نصدق أن الجيش الإسرائيلي هو واحد يعتنق مبدأ “طهارة السلاح”؟ وعلينا أن نطرح سؤالاً آخر. إذا كان عدد القتلى 60 فلسطينيا ًفي يوم واحد هذا الأسبوع، فماذا لو أصبح العدد 600 في الأسبوع القادم؟ أو 6.000 في الشهر المقبل؟ تثير ذرائع إسرائيل البائسة -واستجابة أميركا الفجة- هذا السؤال بالذات. إذا كنا نستطيع أن نقبل الآن مجزرة بهذا الحجم، فأي مدى يستطيع نظام المناعة لدينا أن يصل إليه في الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة؟
نعم، إننا نعرف كل الأعذار. كانت حماس -الفاسدة، المشؤومة، حيث ليس ثمة “طهارة”- وراء مظاهرات غزة؛ بعض المتظاهرين كانوا عنيفين، فأرسلوا الطائرات الورقية المشتعلة -طائرات ورقية، بحق الله!- عبر الحدود، وآخرون ألقوا الحجارة؛ مع أنه منذ متى كان رمي الحجارة جريمة كبيرة في أي بلد متحضر؟ وإذا ماتت طفلة رضيعة بعمر ثمانية أشهر بعد استنشاق الغاز المسيل للدموع، فما الذي كان والداها يفعلانه بجلب ابنتهما الرضيعة إلى حدود غزة؟ وفوق ذلك، لماذا نشكو من القتلى الفلسطينيين عندما يكون لدينا قتلى السيسي في مصر والأسد في سورية والتحالف في اليمن لنتعامل معهم؟ ولكن، كلا، يجب أن يكون الفلسطينيون دائماً مذنبين.
الضحايا هم أنفسهم الجناة. هذا هو بالضبط ما اضطر الفلسطينيون إلى تحمله طيلة 70 عاماً. ولنتذكر كيف تم إلقاء اللوم عليهم في نزوحهم قبل سبعة عقود، لأنهم اتبعوا تعليمات محطات الراديو التي دعتهم إلى مغادرة منازلهم حتى يتم إلقاء يهود إسرائيل “في البحر”.
سوى أن هذه المحطات الإذاعية، بالطبع، لم توجد أبداً. وما يزال يتعين علينا أن نشكر “المؤرخين الجدد” لإسرائيل على إثباتهم ذلك. كانت تلك البرامج الإذاعية مجرد خرافة، وجزءاً من التاريخ القومي التأسيسي المخترَع لإسرائيل لضمان الإيحاء بأن الدولة الجديدة -بعيداً عن كونها قد تأسست على أنقاض منازل الآخرين- أقيمت على أرضٍ بلا شعب.
كان من المذهل أن ننظر إلى الطريقة التي بدأ بها نفس الجبن الصحفي القديم بأن يصيب بعدواه إعداد تقرير وسائل الإعلام الأخيرة عما حدث في غزة. وقد وصفت محطة (سي. إن. إن) عمليات القتل الإسرائيلية بأنها “حملة قمع”.
أشارت الإحالات إلى مأساة الفلسطينيين في العديد من وسائل الإعلام إلى “نزوحهم” قبل 70 عاماً، كما لو أنهم كانوا في عطلة أو إجازة وقت “النكبة”، وإنما لم يتمكنوا من تدبر أمر العودة إلى الديار مرة أخرى. وكان ينبغي أن تكون الكلمات المستخدمة واضحة تماماً: ليس “النزوح”، وإنما “الطرد ونزع الملكية”. لأن هذا هو ما حدث للفلسطينيين في كل تلك السنوات وما يزال يحدث في الضفة الغربية -اليوم، بينما تقرأون هذه الكلمات- بمصادقة أشخاص مثل جاريد كوشنر، صهر دونالد ترامب، والمؤيد لهذه المستعمرات التعيسة غير شرعية المبنية على أراضٍ عربية مصادرة من العرب الذين امتلكوا هذه الأرض وعاشوا عليها لأجيال.
وهكذا وصلنا إلى معظم الأحداث المشؤومة يوم 14 أيار (مايو): حمام الدم في غزة، بالتزامن مع الافتتاح المجيد للسفارة الأميركية الجديدة في القدس.
“إنه يوم عظيم للسلام”، هذا ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ذلك اليوم. وعندما سمعت ذلك، تساءلت عما إذا كان سمعي قد أصيب بشيء. هل قال بالفعل هذه الكلمات؟ للأسف، فعل! وفي مثل هذه الأوقات، ثمة الكثير من السلوى في أن نجد صحفاً مثل صحيفة هآرتس الإسرائيلية اليومية وهي تحافظ على حسها بالشرف. لكن أكثر التقارير إثارة للإعجاب جاء في صحيفة “نيويورك تايمز”؛ حيث التقطت ميشيل غولدبيرغ رعب كل من غزة وافتتاح السفارة في القدس.
كان افتتاح السفارة، كما كتبت، “متنافراً ومزخرفاً… استكمالاً للتحالف المشؤوم بين اليهود المتشددين والإنجيليين الصهاينة الذين يؤمنون بأن عودة اليهود إلى إسرائيل سوف تؤدي إلى نهاية العالم وعودة المسيح، والتي سيتم بعدها حرق اليهود الذين لا يتحولون إلى المسيحية”. وأشارت غولدبرغ إلى روبرت جيفريس، أحد قساوسة دالاس، الذي أدى صلاة الافتتاح في حفل السفارة.
جيفريس، الذي ادعى ذات مرة أن الأديان مثل “المورمونية والإسلام واليهودية والهندوسية” تقود الناس إلى “الخلود في الانفصال عن الله في الجحيم”. ثم جاء البوح الختامي من جون هاجي، الواعظ عن آخر الزمان، الذي ادعى ذات مرة، كما ذكرت غولدبرغ، أن الله هو الذي أرسل هتلر ليرسل اليهود إلى موطن أجدادهم.
وعن غزة، كتبت غولدبرغ: “حتى لو استبعدت تماماً حق العودة الفلسطيني -وهو ما أجد الآن صعوبة في فعله بعد أن تخلت إسرائيل تماماً عن إمكانية قيام دولة فلسطينية- فإن أي شيء يبرر بالكاد هذا العنف العسكري غير المتناسب”. ومع ذلك، لست متأكداً كثيراً من أن الديمقراطيين أصبحوا أكثر جرأة لمناقشة الاحتلال الإسرائيلي كما تظن غولدبرغ. لكنني أعتقد أنها على صواب عندما تقول إنه طالما ظل ترامب رئيساً “ربما سيظل من الممكن أن تقتل إسرائيل الفلسطينيين، وتهدم منازلهم وتصادر أراضيهم، مع حصانة كاملة”.
نادراً ما صادفنا في العصر الحديث شعباً بأكمله -الفلسطينيين- وهم يعاملون على أنهم ليسوا شعباً. وسط القمامة والجرذان في مخيمات صبرا وشاتيلا للاجئين في لبنان -آه كم هي أسماء قدَرية هذه الأسماء- ثمة متحف في كوخ يضم الأشياء التي جلبها إلى لبنان من الجليل أولئك اللاجئون الأوائل في أواخر الأربعينيات: أواني القهوة، ومفاتيح الأبواب الأمامية للمنازل التي دُمرت منذ أمد طويل. وقد أغلقوا أبواب منازلهم، العديد منهم، وهم يخططون للعودة إليها في غضون أيام قليلة.
لكنهم يموتون بسرعة، أبناء ذلك الجيل، مثل موتى الحرب العالمية الثانية. وحتى في المحفوظات الشفوية عن الطرد الفلسطيني (تم تسجيل شهادات ما لا يقل عن 800 ناجٍ)، التي تم تنظيمها الجامعة الأميركية في بيروت، وجدوا أن أصحاب العديد من الأصوات المسجلة في أواخر التسعينات قد ماتوا منذ ذلك الحين.
وإذن، هل سيعودون إلى الديار؟ هل “يعودون”؟ أعتقد أن هذا هو مكمن الخوف الأكبر لإسرائيل، ليس لأن هناك بيوتاً “يعودون” إليها، وإنما لأن هناك ملايين الفلسطينيين الذين يطالبون بحقهم -بموجب قرارات الأمم المتحدة- والذين قد يحضرون بعشرات الآلاف عند السياج الحدودي في غزة في المرة القادمة.
كم عدد القناصة الذين ستحتاجهم إسرائيل عندئذٍ؟ ثمة، بطبيعة الحال، تلك المفارقات المؤلمة. هناك عائلات في غزة تم طرد أجدادها وجداتها من منازلهم التي تقع على بعد أقل من ميل واحد من غزة نفسها، من قريتين كانتا موجودتين بالضبط حيث توجد اليوم مدينة سديروت الإسرائيلية، التي كثيراً ما قصفتها حماس بالصواريخ. وما يزال بإمكان هؤلاء اللاجئين رؤية أراضيهم. وعندما تستطيع أن ترى أرضك، فإنك ستريد العودة إلى الديار.

روبرت فيسك

الغد