الخيار الوحيد الذي ترى القيادة الفلسطينية أنه بقي أمامها الآن هو محاولة تدويل الصراع؛ بعبارات أخرى، إطلاق حملة دولية من أجل الحصول على أوسع اعتراف ممكن بالدولة الفلسطينية، مع التركيز بشكل خاص على أوروبا. كما تتضمن هذه الاستراتيجية أيضاً إعادة إطلاق الفلسطينيين جهودهم لنيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، والانضمام إلى أكبر عدد ممكن من المعاهدات والهيئات الدولية باعتبارهم “دولة”، وتنشيط حملة سياسية وقانونية ضد دولة إسرائيل، بما في ذلك في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
* * *
تم “إخراج” السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس بشكل أساسي من عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة، بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وفي الحقيقة، استخدم عباس هذا القرار كذريعة مريحة. كان خائفاً من أن تأتي عملية السلام الأميركية في طريقه، وشعر بأنه سيترتب عليه أن يرفضها -بينما قد تقول إسرائيل، نعم- ولم يرد أن يمر بذلك الوضع. ولذلك اغتنم إعلان ترامب كفرصة ليقول إن الولايات المتحدة لم تعد وسيطاً نزيهاً للسلام بعد الآن، وبالتالي لا يمكنها أن تستمر في لعب دور الوسيط الحصري، والتحول بعد ذلك إلى الاستراتيجية البديلة (التي لطالما كان يفضلها منذ وقت طويل) القائمة على “تدويل الصراع”.
ما تزال الإدارة الأميركية عاكفة على العمل على وضع خطة للسلام منذ عام تقريباً. وهي تشير إلى الأزمة الحالية على أنها فترة “تهدئة”، وتأمل في أن تترك الغبار يهدأ ثم تستأنف لعبة صنع السلام بعد ذلك، على أمل أن يكون بالإمكان إقناع السلطة الفلسطينية بالعودة إلى المفاوضات. وانطباعي هو أن الأميركيين ما يزالون عاكفين على إعداد “الخطة أ” -العمل لصنع اتفاق شامل، وتحسينه وتقديمه إلى الفرقاء في نهاية المطاف. وهناك افتراض ضمني في التمسك بـ”الخطة أ”، هو أنه يمكن جلب الفلسطينيين إلى الخطة، ربما بدعم عربي. ومع ذلك، فإن الرسالة التي يرسلها الفلسطينيون -بما في ذلك خطابات عباس الأخيرة والتصريحات التي تصدر عن قيادة السلطة الفلسطينية- هي العكس. ويتبنى عباس، الذي هبطت شعبيته بشكل كبير في السنوات الأخيرة، لهجة متحدية تجاه الولايات المتحدة والعملية التي تقودها من أجل تعزيز موقفه. وفي الأثناء، لم تكتفِ السلطة الفلسطينية بتعليق معظم الاتصالات السياسية الرسمية بينها وبين الولايات المتحدة، وإنما تقوم في الوقت نفسه بإطلاق مبادراتها الخاصة -ساعية إلى الحصول على اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية وكسب المزيد من الرعاة الدوليين لعملية السلام. وهناك أيضاً قرار اتخذه المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية (لم يتم تطبيقه حتى كتابة هذه السطور)، والذي يقضي بمراجعة العلاقات مع إسرائيل والاعتراف بها أيضاً، بالإضافة إلى إعادة النظر في التعاون الأمني معها. ويمكن أن تؤدي هذه المبادرات بدورها إلى تصعيد التواترات بين السلطة الفلسطينية والولايات المتحدة.
يبدو أن توجهات القيادة الفلسطينية هي أنها لا تريد العودة إلى المفاوضات. وتشعر القيادة بأن العرب فقدوا الكثير من نفوذهم على الجانب الفلسطيني، وكذلك حماسهم لدعم عملية السلام بفعالية. ولأن القدس قضية بالغة الحساسية والعاطفية بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي، فإن الفلسطينيين يعتقدون أن اللعب بهذه الورقة بالشكل الصحيح، وخاصة التلويح بـ”علم أحمر” ضد ما يتم عرضه على أنه محاولة أميركية للتبرع بـ”القلب النابض” للأمتين العربية والإسلامية، سوف يقيد أيدي الدول العربية بسبب الرأي العام فيها ويمنعها من الاصطفاف مع الأميركيين في الضغط على الفلسطينيين للعودة إلى محادثات السلام. وفي حين أن ردة الفعل العربية على الاعتراف بالقدس كانت معتدلة نسبياً، وأقل بكثير من التوقعات الفلسطينية، فإن الفلسطينيين ليسوا مخطئين تماماً في شعورهم إزاء توجهات العرب.
إذا توصلت الإدارة الأميركية في نهاية المطاف إلى استنتاج أنها ليست هناك طريقة لإعادة الفلسطينيين إلى العملية السلمية، فسيكون عليها النظر في خياراتها الأخرى، وهي:
• تقديم الخطة للفرقاء على أي حال، وفي النهاية إما الابتعاد وترك الخطة على الطاولة، وإما تقرير/ إعلان أنها ستكون هناك عواقب ستترتب على رفضها، أو حتى على عدم مناقشتها، قبل أن تبتعد. وفي مثل هذا السيناريو، ربما تقوم الإدارة بمعاقبة طرف واحد ومكافأة الطرف الآخر. وقد منحت الإدارة مسبقاً إسرائيل اعترافاً بالقدس عاصمة لها، في حين قطعت التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونوروا)، لكن هناك إجراءات أخرى يمكن اتخاذها أيضاً.
• الابتعاد ببساطة، من دون وضع أي شيء على الطاولة (إلى جانب إمكانية الإلقاء باللوم عن الفشل إلى طرف معين، مع عواقب لاحقة). وليس هذا هو أسلوب تفكير الإدارة في الوقت الراهن، لكنه يظل خياراً يمكن أن تدرسه.
• مواصلة العمل على خطتها، وإنما تأخير تقديمها لفترة طويلة من الوقت، والتركيز في الأثناء على خطط بديلة لتحسين الأوضاع على الأرض في الضفة الغربية وغزة.
• التخلي عن “الخطة أ” الساعية إلى إبرام “اتفاق نهائي” والتحول إلى “خطة ب”، والتي تكون شيئاً أكثر تواضعاً مثل التوصل إلى اتفاق جزئي/ مؤقت. وتحث بعض الأطراف الدولية الإدارة الأميركية على تبني هذا الخيار؛ ومع ذلك، لا يبدو أن الإدارة تميل إليه.
على أي حال، وخلال فترة التهدئة الحالية، تدرس الإدارة الأميركية إجراءات معينة يمكن أن تتخذها حتى تصبح الأمور أكثر وضوحاً فيما يتعلق بما إذا كان بالإمكان إعادة الفلسطينيين إلى العملية السلمية. وأحد المجالات التي تركز الولايات المتحدة عليها اليوم أكثر من السابق هو غزة، التي تعتقد الإدارة أنها قضية متفجرة.
كما لاحظنا، كان رد الفعل العربي على قرار الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل أقرب إلى الاعتدال وليس ما توقعه الفلسطينيون. وعندما عقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قمة إسلامية في اسطنبول للاحتجاج على القرار الأميركي، فقد حضره فقط زعيمان عربيان فقط؛ العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وعباس، بينما أرسلت الدول الأخرى وفوداً على مستوى منخفض. وينتقد معظم القادة العرب بشدة الخلل الوظيفي في أداء عباس والسلطة الفلسطينية، وقد طور عدد منهم علاقات وثيقة، تحت الرادار، مع إسرائيل.
مع ذلك، تواجه الدول العربية أيضاً ضغوطها المحلية الخاصة، لأن القدس هي قضية عاطفية جداً وبالغة الحساسية بالنسبة للكثير من العرب والمسلمين. وهذا هو السبب في أن القادة العرب أشاروا في العلن، بينما يكبحون ردة فعلهم الحقيقية على إعلان ترامب، إلى الموقف العربي التقليدي القائل إن القدس الشرقية يجب أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية المستقبلية. ويدرك عباس الآن أنه بدلاً من أي يكون لهذه الدول نفوذ عليه، فإنه هو الذي أصبح يمتلك النفوذ عليها، لأنه في موقف يؤهله لاتهامها بالتخلي عن دعم القدس، وهو شيء سيكون ضاراً بها في “الشارع العربي”.
هذا الحال يضعف موقف أولئك، خاصة الولايات المتحدة، الذين يأملون في أن تلعب الدول العربية دوراً فعلاً في عملية السلام. ويقول القادة العرب حالياً لعباس أن لا يحرق الجسور مع الولايات المتحدة، وأن لا يتخذ أي إجراءات متطرفة. وحتى الآن على الأقل، لا يبدو أن عباس يستمع إليهم.
حتى يعلن العرب الرئيسيون (وبعضهم منقسمون على أي حال)، علانية دعمهم الصريح للمبادرة الأميركية والضغط على عباس للموافقة عليها، سيكون عليهم أن يكونوا على دراية بالخطة الأميركية وأن يتمكنوا من الحكم عليها باعتبار أن لا تفترق كثيراً عن المواقف العربية التقليدية المتعلقة بالقضايا الجوهرية الحساسة، كما هي مقدمة بشكل عام في مبادرة السلام العربية.
الآن، أصبح الخيار الخيار الوحيد الذي ترى القيادة الفلسطينية أنه بقي أمامها هو محاولة تدويل الصراع؛ بعبارات أخرى، إطلاق حملة دولية من أجل الحصول على أوسع اعتراف ممكن بالدولة الفلسطينية، مع التركيز بشكل خاص على أوروبا. كما تتضمن هذه الاستراتيجية أيضاً إعادة إطلاق الفلسطينيين جهودهم لنيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، والانضمام إلى أكبر عدد ممكن من المعاهدات والهيئات الدولية باعتبارهم “دولة”، وتنشيط حملة سياسية وقانونية ضد دولة إسرائيل، بما في ذلك في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
أما جميع الخيارات الاستراتيجية الأخرى، فإما فشلت أو أنها في طريقها إلى الفشل. وقد تم تجريب “الكفاح المسلح” خلال الانتفاضة الثانية ودفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً جداً له. وكان عباس تاريخياً وباستمرار معارضاً لهذا النوع من العنف (لأسباب عملية أكثر من كونه لأسباب أخلاقية). كما يعتقد الفلسطينيون أيضاً بأن المفاوضات الثنائية من خلال الوساطة الأميركية لم تعد توفر فرصة للوصول إلى نتائج مقبولة. وثمة خيار ثالث -المصالحة مع حماس- والذي تمت تجربته أيضاً، لكنه أصبح عالقاً، ويبدو عباس متشككاً في قدرة هذا النهج على تحقيق نتائج. وثمة خيار آخر كان قد عرضه رئيس الوزراء في ذلك الوقت، سلام فياض -بناء قدرة الدولة الفلسطينية ومؤسساتها في عملية من أسفل إلى أعلى- لكنه أُجبِر على الخروج ولا تؤمن القيادة الفلسطينية الحالية بهذه الاستراتيجية.
وهناك خيار استراتيجي خامس هو ذلك الذي يسمى المقاومة الشعبية -مثل تنظيم المظاهرات الجماهيرية، ورمي الحجارة، وكذلك عمليات الدهس بالسيارات والطعن (وهي أعمال عنيفة وفتاكة، لكنها تندرج تحت عنوان المقاومة الشعبية الفلسطينية). وفي حين يعرض عباس والقيادة الفلسطينية هذا الخيار على أنه مشروع وجدير، فإنهم يخافون منه لأنه أشبه بامتطاء نمر -وهم يشعرون بالقلق من أن هذه الطاقة السلبية سوف تنقلب عند نقطة ما ضدهم هم أيضاً، بالنظر إلى أنهم على دراية بمشاعر الاستياء العام منهم في الوقت الراهن، خاصة بين جيل الشباب. وعلى سبيل المثال، عندما انطلقت موجة من عمليات الطعن والدهس بالسيارات في أواخر العام 2015، كانت القيادة الفلسطينية متناقضة جداً وبطيئة في رد الفعل. ثم تدخلت في نهاية المطاف لمحاولة منع ذلك لأنها أدركت أنه لم يكن لا طائل تحته فحسب، وإنما كان خطيراً عليها هي أيضاً.
بعد تحليل هذه الخيارات، ترى القيادة الفلسطينية نفسها متروكة مع خيار واحد، وهو ما يركز عليه عباس اليوم، وبالتحديد تدويل الصراع، أولاً وقبل كل شيء من خلال الحصول على أوسع قدر ممكن من الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
من منظور فلسطيني، يعني تدويل الصراع أيضاً تدويل المفاوضات المحتملة مع إسرائيل، وبالتحديد استبدال النموذج القديم للمفاوضات الثنائية القائمة على الوساطة الأميركية الحصرية بنموذج مشابه لمفاوضات (5+1) مع إيران -في مناخ وساطة دولية مع الأميركيين، والأوروبيين، والروس، والصينيين، وآخرين. وكان عباس قد أشار إلى هذا النهج في خطابه يوم 20 شباط (فبراير) أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وأعتقد أن من المرجح أن يحقق الفلسطينيون نتائج متواضعة جداً من كل هذه الاستراتيجية؛ وقد وعدت بعض الدول الأوربية الثانوية، مثل سلوفينيا وبلجيكا ولوكسمبرغ وإيرلندا مسبقاً -أو هي على وشك الاعتراف بالدولة الفلسطينية. لكن تحصيل الاعتراف من واحدة من الدول الأوروبية الرئيسية يبدو أقل احتمالاً في هذه المرحلة، على الرغم من أنه إذا لم يتغير شيء بين الولايات المتحدة والفلسطينيين، فإنني لا أستبعد أن تتحرك واحدة منها -ربما فرنسا- إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية في مرحلة لاحقة، وهو ما يمكن أن يكون شيئاً مهماً.
حذر رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي، غادي إيزنكوت، مؤخراً من مخاطر التصعيد في غزة. وبالإضافة إلى الوضع الاقتصادي الرهيب في القطاع (الذي يعبر عن نفسه في معدلات البطالة العالية للغاية) وانهيار البنية التحتية الأساسية -الكهرباء والمياه والصرف الصحي والخدمات الأساسية الأساسية- فقد تفاقم الوضع أكثر بسبب الجمود في عملية المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية، والتي أمل الكثيرون في أن تجلب في ركابها تغيراً إيجابياً إلى غزة.
الآن، أصبحت عملية المصالحة الفلسطينية عالقة في نوع من “نصف الحمل”. وقد تخلت حماس بموجبها عن إدارة القطاع المدني، وحولت السلطات والمسؤوليات عنه إلى السلطة الفلسطينية، وأصبحت تعتبر نفسها الآن غير مسؤولة عن معاناة صداع إطعام نحو مليوني فلسطيني في غزة. ومع ذلك، تزعم السلطة الفلسطينية أنه لم يتم تحويل كامل السلطة إليها، وأنها لا تستطيع أن تمارس سلطتها بشكل كامل في غزة، بينما ترفض حماس نزع سلاحها والتخلي عن سيطرتها على الأمن في القطاع. ولذلك، لم تقم السلطة بإلغاء إجراءاتها العقابية كافة ضد غزة. وفي هذا الوضع، لا تتحمل السلطة الفلسطينية ولا حماس المسؤولية عن معالجة المشكلات التي تواجه الغزيين أنفسهم. وفي الأثناء، لم يفعل المجتمع الدولي ما يكفي، أولاً وقبل كل شيء فيما يتعلق بالتمويل، لمعالجة القضايا الإنسانية الأساسية في القطاع، مثل أزمات البنية التحتية. وفي نهاية المطاف، فإن الناس في غزة هم الذين يدفعون الثمن ويعيشون المعاناة.
في أعقاب اجتماع المانحين الذي انعقد في بروكسل في نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي، آمل أن يكون هناك تقدم يعتد به في معالجة بعض المشاكل الأساسية في غزة، لأنه ظهر أخيراً لبعض اللاعبين الرئيسيين أن الوضع هناك متفجر للغاية، وأن الأمور قد تتصاعد إلى درجة اندلاع العنف.
لعل التغيير الرئيسي هو أن الولايات المتحدة تبدو راغبة اليوم في لعب دور بارز في العملية. ويجيء هذا مصحوباً بحقيقة أن مصر، وإسرائيل -التي عرضت على المانحين خطة بكلفة مليار دولار لإصلاح البنية التحتية في غزة- وبعض المانحين الآخرين المهمين في الاتحاد الأوروبي، كلهم أصبحوا على متن العربة يدفعهم حس بالإلحاح، مما يعني أننا ربما نشهد بعض التقدم الحقيقي في إصلاح بعض العلل الأساسية في قطاع غزة. وهذا هو الانطباع الذي يتشكل لدى المرء لدى الحديث مع الناس الذين شاركوا في اجتماع المانحين المذكور.
على الرغم من حقيقة أن حماس هي عدو لدود وصريح لإسرائيل، وأنها تسيطر على الأمن في غزة، وتستثمر في تسليح نفسها على حساب حاجات السكان، وتغازل إيران وحزب الله، وتشن الهجمات العنيفة في الضفة الغربية وتحتفظ برفات جنود من جيش الدفاع الإسرائيلي وببعض الإسرائيليين رهائن كورقة للمساومة -فإنني أعتقد بأن من مصلحة إسرائيل أن تجلب البنية التحتية في غزة إلى مستوى أساسي حيث يستطيع الناس أن يحصلوا على تيار كهربائي لمدة 24 ساعة في اليوم (وليس أربع ساعات فقط). وينطبق الأمر نفسه على المياه والصرف الصحي.
أما أبعد من هذه النقطة، فيجب على إسرائيل أن تمارس ما يلزم من الضغط على حكومة حماس، والذي يتطلبه ردعها وإرغامها على إعادة الرفات والرهائن المذكورين. كما لا يجب أن تكون هذه الخطوات مشروطة بالمصالحة بين فتح وحماس لأن فرص تحقيق هذه المصالحة ضئيلة للغاية.
تبقى المعضلة هي كيف يمكن عمل ذلك من دون إفادة حماس. ففي نهاية المطاف، يفهم الناس في غزة أنه بعد حكمها على مدار عقد، وجلبها ثلاث جولات من الصراع المسلح مع إسرائيل، ومعها الكثير من الخراب والدمار والعزلة، وأزمة اقتصادية وإنسانية حادة، فإن حماس وسياساتها يتحملان المسؤولية الرئيسية عن الوضع المتدهور. والرسالة للناس في غزة هي أن التغيير الإيجابي يحدث على الرغم من حماس، وليس بسببها.
البديل -عدم القيام بأي شيء طالما ظلت حماس مسيطرة ومن دون تغيير توجهاتها، أو طالما ليست هناك مصالحة فلسطينية- هو أسوأ بكثير. فحتى اليوم، ما تزال المياه العادمة تتدفع في البحر المتوسط وتشل بعضاً من خطط إسرائيل لتحلية المياه. وفي غزة نفسها، هناك في هذا الوقت مبادرة تجمع الزخم لدفع الآلاف من الناس إلى المسير نحو الحدود الإسرائيلية للاحتجاج على الظروف القاتمة والوضع المزري في القطاع. والوضع بشكل عام خطير جداً. ولذلك، وعلى الرغم من مشكلات إسرائيل مع حماس، فإن هناك مستوى أساسياً من إصلاح مشكلات غزة التي يجب علينا معالجتها. وسيكون هذا في مصلحتنا. ونأمل أن تتحرك الجهات الدولية والإقليمية أخيراً في هذا الاتجاه بطريقة أكثر فعالية مما شهدنا حتى الآن.
إننا الآن في قلب مشكلة سياسية عميقة، أولاً وقبل كل شيء بين الولايات المتحدة والفلسطينيين. وسوف يكون من الصعب جداً محاولة وقف عباس عن الدفع باستراتيجيته للتدويل وجعله يعود إلى عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة. وإمكانية التأثير عليه محدودة لأن الدول العربية أقل رغبة في لعب دور، ولأن الأوروبيين لا يضغطون عليه حقاً أيضاً. ولا تفكر الولايات المتحدة الآن في “خطة ب”، وإنما تقوم بدلاً من ذلك بالتركيز على إعداد “الخطة أ”. وعلى النقيض من إدارة أوباما، يبدو فريق ترامب غير مستعد لدفع ثمن في مقابل إعادة الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات. وبدلاً من ذلك، يقومون بتهديد الفلسطينيين بمعاقبتهم على عدم عودتهم إليها وعلى إطلاق أي مبادرات بديلة.
في حين تراقب إسرائيل هذه الديناميات بهدوء، فإن العناصر الأكثر يمينية في ائتلافها (التي تشعر أيضاً بهشاشته بالنظر إلى تحقيقات الشرطة الجارية ضده)، تسعى جاهدة إلى تقييد يدي رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، والدفع في اتجاه المزيد من النشاط الاستيطاني وبعض مبادرات الضم في الضفة الغربية (وهو ما أثار إنكاراً أميركياً شديداً للادعاءات بأن الإدارة ناقشت مثل هذه الإجراءات للضم مع إسرائيل). ويبدو المناخ السياسي الحالي في إسرائيل -على الرغم من اهتمامه البالغ بالحفاظ على علاقات أميركية-إسرائيلية قوية- يعيق أي عملية إسرائيلية-فلسطينية ذات معنى.
لا أرى كيف يمكن عكس وجهة هذه الدينامية بأكملها ومن هو الذي يمكن أن يعكسها. لذلك، وبهذا المعنى، لست متفائلاً كثيراً بأن الغبار سيهدأ وبأننا سنعود إلى عملية السلام عاجلاً أو آجلاً. وعلى أصحاب الحصص المختلفين الشروع في النظر في “خطة ب” لكل منهم.
وفي الأثناء، حان الوقت لأن نرى تقدماً حقيقياً يتم إحرازه في غزة فيما يتعلق بتحسين اقتصادها وإصلاح بنيتها التحتية المدمرة. لن تذهب المصالحة الداخلية الفلسطينية إلى أي مكان ولن تحل مشكلات غزة. وعلى أصحاب المصلحة الخارجيين أن يأخذوا زمام المبادرة أخيراً وأن يتحركوا إلى الأمام.
مايكل هيرتسوغ
الغد