حين يعلو قرص الشمس وينتصف سماء بغداد، تبدأ دورة حياة نازحي نينوى المقيمين في مخيم حي الجامعة غربي العاصمة، لا جديد في تلك الحياة، رجال يجلسون أمام خيامهم ونساء يغسلن الملابس أو ينظفن أفنية مساكنهن الصغيرة، بانتظار مستقبل مجهول.
أطفال يلعبون تحت أشعة الشمس الحارقة، بعد أن أجبرهم انقطاع التيار الكهربائي على الخروج من الخيام التي يقيمون بها، لتستقبلهم حرارة الشمس وغبار الأرض اللاهب، وتكتسي ملامح وجوههم تعبا فوق تعبهم وبؤسا فوق بؤسهم.
وأمام إحدى الخيام يجلس أبو قصي النازح من قضاء البعاج غربي نينوى، وقد قدم إلى بغداد بعد أن قضى نحو عامين في مخيم الهول بسوريا هربا من نيران الحرب، ينتظر السماح له ولأسرته بالعودة إلى مدينته بعد تأمينها من هجمات من يقول إنهم عناصر إيزيدية “منفلتة”.
هذه العناصر جعلت الكثير من هذه العوائل تفضل البقاء في المخيمات على العودة إلى مناطقهم المحاذية لجبل سنجار، حيث تسري قوانين الثأر العشائري والديني، بعد حقبة يصفها الأهالي بالأكثر سوادا.
أبو قصي كان يعمل منتسبا في أحد الأجهزة الأمنية -كما يقول- لكنه فُصل من وظيفته بعد سيطرة تنظيم الدولة على الموصل كغيره من آلاف الجنود والضباط، وبعد أن استعادت الحكومة العراقية السيطرة على منطقته عاد ليلقي نظرة على قريته فكانت الفاجعة.
بيوت مسروقة ومدمرة وأراض مجرفة ومحروقة، يؤكد أنها من فعل “مليشيات حاقدة” ما زالت تسرح وتمرح هناك ولا تجد من يردعها، على حد وصفه.
يضيف للجزيرة نت “حتى لو أردت العودة اليوم وتغاضيت عن الوضع الأمني، فماذا بقي في منزلي وقريتي بعد تدميرها، فلا كهرباء ولا ماء ولا مدارس أو مراكز صحية، فما الذي يدعو للعودة؟” يتساءل بحسرة.
غياب الدعم الحكومي
وفوق كل هذا، يعاني المخيم كغيره من المخيمات المنتشرة في بغداد من انقطاع الإمداد الحكومي بالمواد الغذائية ومادة الكيروسين لتشغيل المولدات الكهربائية، وهو ما يجعل القائمين عليه يلجؤون إلى طلب مساعدات من المتبرعين، كما يقول المشرف على المخيم رمزي العزاوي.
ويضيف للجزيرة نت أن هناك 45 عائلة من الموصل والبعاج وسنجار وزمار ما زالت تقيم في المخيم، بعد أن غادرت نحو خمسين عائلة أخرى، وجازفوا بالعودة إلى ديارهم رغم صعوبة الوضع هناك.
وبحسب العزاوي فإنهم لم يتسلموا من وزارة الهجرة والمهجرين أي شيء لمدة عام ونصف، باستثناء بعض المواد الغذائية، لكنها انقطعت أيضا منذ ثلاثة أشهر، دون إبداء أي سبب واضح.
وفي حر العراق لا تزود الحكومة المخيم إلا بنحو عشر ساعات من الكهرباء، فضلا عن صعوبة الحصول على مادة الكيروسين لتشغيل المولدات التي ينتظرها المقيمون بشغف للحصول على نسمات هواء باردة من المبردات والمكيفات، التي تبرع بيها جيران المخيم لسكانه.
أما الحصول على الدواء فهو مهمة شاقة جدا، لا سيما لأصحاب الأمراض المزمنة أو الخبيثة، وهو يلقي على كاهل إدارة المخيم عبئا ثقيلا، كما يقول العاملون فيه، يتمثل في التواصل مع منظمات إغاثية للحصول عليه ولو بأسعار مخفضة.
اتصلنا بوزارة الهجرة والمهجرين لمعرفة الأسباب التي تحول دون منح هذه المخيمات مخصصاتها من الغذاء والوقود إلا أنهم رفضوا الإدلاء بأي تصريح، قائلين إن ما يتداول حول الموضوع ليس أكثر من “إشاعات”.
غير أن مصدرا من داخل الوزارة أخبرنا أنهم لم يتسلموا مخصصات النازحين في الميزانية منذ بضعة شهور، وأن الموضوع ليس بيدهم.
مرشحون ووعود
ورغم قتامة هذه الأجواء، فإن ما بددها بعض الشيء هو قدوم سياسيين قبيل موعد الانتخابات، ليرسموا للنازحين صورا لمستقبل وردي مليء بالوعود والمغريات.
لكنها سرعان ما تبددت بعد إعلان النتائج، حيث لم يعد أحد يقصدهم أو يمنيهم بشيء، كما يقول أركان سعد، النازح من مدينة الموصل.
وفيما يشبه الكوميديا السوداء، يحكي أركان عن المساعدات التي وصلت إليهم في تلك الفترة، واللقاءات التي عقدها المرشحون بالأهالي، والوعود بصرف مستحقاتهم من الأموال التي خصصتها الحكومة لهم، ولم يتسلموها منذ سنة وأربعة أشهر.
يقول أركان إنهم كانوا مضطرين لتصديقهم لعدم وجود خيار آخر لديهم، إلا أن الأيام أثبتت أنها لم تكن أكثر من وعود انتخابية.
ويحكي النازح الموصلي عن هجرة معاكسة من المدن المستعادة إلى المخيمات، لأن تلك المناطق لم تعد صالحة للعيش الآدمي، بعد غياب الأمن والخدمات بشكل شبه كامل.
ويؤكد أن الوضع في المخيمات صعب جدا، لكنهم يتسلمون مساعدات من منظمات إنسانية، يلجأ بعضهم إلى بيعها في الأسواق للحصول على أموال زهيدة لإنفاقها على أسرهم.
أما العمل فقد أصبح حلما بعيد المنال للكثيرين منهم، خاصة في ظل ارتفاع معدلات البطالة ببغداد والمدن الأخرى التي نزحوا إليها، “ولولا الله ثم المساعدات التي تقدمها المنظمات والأهالي لكان الوضع جحيما لا يطاق”، وفق ما يقول.
وبحسب النازح فإن المدن والقرى التي عاد إليها النازحون كانت الأقل تضررا من غيرها، ورغم ذلك فقد شعر كثير منهم بالندم وبدأوا بالعودة إلى المخيمات التي قدموا منها، “فبعض الشر أهون من بعض”، يقول بمرارة.