ومع توالي الاكتشافات، رفعت هذه التقديرات آمال دول شرق البحر المتوسط، وفتحت شهية شركات النفط والغاز، وألهبت التنافس الإقليمي على الموارد، وجذبت انتباه القوى الدولية إلى ثروة إضافية وبؤرة صراع محتملة. كما أن اكتشاف الغاز في هذه المنطقة جاء مترافقًا مع مشاكل متعددة، لعل أهمها:
1- معظم دول شرق البحر المتوسط لم تكن جاهزة لناحية البيئة القانونية المناسبة لاستثمار الثروات قبالة سواحلها. ومع بدء الاكتشافات قبل حوالي عقد من الزمان، دخلت دول المنطقة في سباق مع الوقت.
2- غالبًا ما كان الاتفاق على ترسيم الحدود وتحديد الحقول مع الدول المجاورة معلقًا، لكن مع الاكتشافات الضخمة، أصبحت المسألة مهمة للغاية، وباتت موازين القوى أكثر أهمية في المعادلة.
3- لا يضمن اكتشاف الغاز بحدِّ ذاته للدولة صاحبة الحق الاستفادة منه سواء داخليًّا أو للتصدير، بل يجب أن يكون الاكتشاف مجديًا، وتدخل عوامل متعددة في هذه المعادلة أهمها وجود سوق للاستهلاك وبنية تحتية مناسبة، يضاف إليها وجود مشتر وطرق نقل إلى الأسواق الخارجية في حال كانت الكميات المكتشفة تفوق حاجة الاستهلاك المحلية.
أولًا: تركيا – قبرص
تتسم المشكلة بين تركيا وقبرص (اليونانية) ببُعدين: الأول يرتبط بالدولتين مباشرة، والثاني يرتبط بالعلاقة بين قبرص (التركية- لا يعترف بها أحد باستثناء تركيا) وقبرص (اليونانية- عضو في الاتحاد الأوروبي). بالرغم من ذلك، غالبًا ما يتم التعامل مع الملف كمشكلة واحدة ذات أبعاد سياسية وقانونية وحدودية واقتصادية وأمنية متشابكة ومتعددة.
أ- قبرص التركية-قبرص اليونانية: تَعتبر قبرص التركية أن ثروات الجزيرة هي ملك لجميع أبنائها، ولا يجوز استغلالها بمعزل عن الطرف الآخر، لكن قبرص اليونانية تجاهلت هذا الأمر وقامت بالانتهاء من ترسيم حدود منطقة اقتصادية خالصة لها (EEZ) تمكنها من استغلال ثروة الغاز بشكل أحادي في العام 2010 (انظر الجدول رقم 2)؛ مما دفع قبرص التركية للرد بخطوة مماثلة، فقامت بتحديد حدودها البحرية، كما وقَّعت اتفاقًا مع تركيا لترسيم الجرف القاري في العام 2011(9).
ونتيجة لهذه الإجراءات، أصبح هناك تداخل بين المناطق المحددة من قبل الطرفين القبرصيين (التركي واليوناني). ولذلك تطالب قبرص (التركية) بحقها في المناطق رقم 1و2 و3 و8 و9 و12 و13 التي قامت قبرص (اليونانية) بترسيمها(10). (انظر الخريطة رقم 1).
ب- تركيا-قبرص اليونانية: تركيا ليست عضوًا في معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار التي تتيح تحديد المناطق البحرية، وأحد أسباب ذلك هو نزاعها مع اليونان في بحر إيجه. تعتبر تركيا أن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية تتداخل مع الجرف القاري التركي ومع المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها (لم يتم الإعلان عنها رسميًّا) في المناطق 1 و4 و5 و6 و7(11).
واستنادًا إلى هذه المطالب، لا تعترف تركيا بالاتفاقات التي أقامتها قبرص (اليونانية) لترسيم منطقتها الاقتصادية الخالصة مع كل من مصر وإسرائيل ولبنان، وترى أن إرساء المناقصات على الشركات الأجنبية للبحث والتنقيب على الغاز في هذه المنطقة غير قانوني، لأنه ينتهك حقوق أنقرة(12). كما تدعم تركيا مطالب قبرص التركية في حقوقها في المناطق التي أعلنتها(13).
ثانيًا: إسرائيل – لبنان
كما هي الحال بين تركيا وقبرص، هناك صراع متعدد الأبعاد بين لبنان وإسرائيل. البلدان لم يُرسِّما حدودهما المائية مع بعضهما البعض، أضف إلى ذلك أن إسرائيل ليست موقِّعة على معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، وهي تعتبر أن هناك رقعة تابعة لها ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي رسَّمها لبنان (انظر الخريطة). يبلغ حجم الرقعة التي تدعي إسرائيل أن لها فيها حقوقًا حوالي 850 كلم2(14)، ويثار الإشكال تحديدًا حول المناطق 8 و9 و10 من المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان ولاسيما المنطقة رقم 9، (انظر الخريطة رقم 2) حيث يعتقد أن هناك موارد طبيعية هائلة من الغاز والنفط.
في المقابل، يرفض لبنان هذه المزاعم الإسرائيلية، ويعتبر أن استناد إسرائيل إلى الخط الأزرق البري في رسم حدود بحرية غير قانوني ولا يُعوَّل عليه، كما ترفض الحكومة اللبنانية أيضًا اتفاق الترسيم الذي تم بين قبرص وبين إسرائيل، وتطالب نيقوسيا بأن تقوم بتعديل هذا الاتفاق ليعكس الترسيم اللبناني لحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها، وهو الأمر الذي ترفضه نيقوسيا أيضًا(15).
ثالثًا: حالات أخرى
بالإضافة إلى الحالات المذكورة أعلاه، كانت هناك مشاكل أخرى بين إسرائيل وقطاع غزة، وبين إسرائيل ومصر، وبين مصر وكل من قبرص (اليونانية) واليونان، وبين لبنان وسوريا. لكن هذه المشاكل أصبحت أقل حدة خلال السنوات الماضية، كما أن بعضها زال ولم يعد موجودًا، وذلك لعدة أسباب، أهمها:
1- مصر: هناك من يرى أن الخلافات بين مصر وكل من إسرائيل وقبرص اليونانية واليونان قد اختفت تمامًا إثر تنازلات تم تقديمها من القاهرة تحديدًا، وذلك لغايات سياسية خالصة تتعلق بالنظام المصري(16).
2- سوريا: ليست موقِّعة على معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، ورفضت في السابق ترسيم حدودها مع لبنان. وبعد الحرب السورية عام 2011، أصبحت دمشق خارج المعادلة تقريبًا في وضعها الحالي، لكن لا شك أن الأمور ستتغير مع عودتها لاحقًا وفي ظل الاتفاقات التي كان نظام الرئيس بشار الأسد قد وقَّعها مع روسيا في السنوات القليلة الماضية بشأن استكشاف واستخراج الغاز.
3- غزة/السلطة الوطنية الفلسطينية: ربما كان الفلسطينيون أول من اكتشف مواردهم من الغاز في المنطقة وذلك في العام 1999، أي قبل سنوات طويلة من الاكتشافات الإسرائيلية أو القبرصية(17)، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي منعهم من استغلال ثرواتهم بشكل كامل لأسباب سياسية واقتصادية، وبسبب الخلل في ميزان القوى والتشرذم الداخلي، لم يكن باستطاعة الفلسطينيين فعل الكثير لتغيير هذا الواقع.
أولًا: اللاعبون الإقليميون
أ. تركيا: كانت ولا تزال حسابات تركيا السياسية المتعلقة بالغاز في شرق البحر المتوسط ترتبط بآمالها في أن يتحول اكتشافه إلى دافع لإنجاز مصالحة توحد شطري الجزيرة وتتيح لهما الاستفادة من الثروات المكتشفة. لكن سعي قبرص اليونانية إلى إجراءات أحادية تتجاهل مطالب الجانب التركي والقبرصي التركي حول الغاز ما يحول “الملف التصالحي” إلى ملف خلافي يميل إلى المعادلة الصفرية؛ إذ تعتبر أنقرة أن مثل هذا السلوك كان ولا يزال وراء فشل مفاوضات السلام المتعلقة بالجزيرة في وقت كان من الممكن فيه استغلال ملف الغاز من أجل حشد الدعم اللازم لتوحيد الجزيرة كشرط لاستغلال ثرواتها المشتركة(18).
ب. مصر: لا يحمل الغاز قيمة اقتصادية فقط بالنسبة إلى النظام المصري، بل الأهم أنه يعتبر أداة من أدوات تثبيت نظام الحكم والحصول على الشرعية الإقليمية والدولية المطلوبة في ظل غياب شرعية داخلية تتيح للشعب المصري الاستفادة الأمثل من ثروات البلاد. أحد أهم المؤشرات التي يعتمد عليها في هذا التفسير، هو سرعة توصل النظام المصري إلى اتفاقات مع كل من إسرائيل وقبرص اليونانية واليونان. تربط هذه الاتفاقات المصالح المكتسبة لتل أبيب ونيقوسيا وأثينا ببقاء النظام المصري في السلطة، ونظرًا لأهمية إسرائيل واليونان وقبرص اليونانية لدى كل من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، فإن النظام المصري يضمن من خلال هذه الاتفاقات الحصول على دعم دولي غير مباشر له، على اعتبار أن رحيله قد يقوض المكاسب التي حصلت عليها هذه الأطراف بفضله.
ج. إسرائيل: تساعد الاكتشافات المتزايدة للغاز إسرائيل على الانعتاق من الاعتماد الذي كان قائمًا على مصر كما تسدُّ فجوة كبيرة في قطاع الطاقة لديها، ولا تكتفي بذلك فقط، فالغاز في الحسابات الإسرائيلية تحول إلى رافعة سياسية وأمنية، وإلى سلاح سياسي فعَّال لتحقيق التطبيع مع عدد من الدول العربية في الجوار الإقليمي ولاسيما مصر والسلطة الوطنية الفلسطينية والأردن(19).
ثانيًا: اللاعبون الدوليون
أ. الاتحاد الأوروبي: أولويته تعزيز أمن الطاقة لتنويع مصادر الواردات وكذلك تنويع طرق التوريد لاسيما مع تدهور العلاقات الأوروبية-الروسية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق، يسهم غاز شرق المتوسط في تحقيق هذه المعادلة ويخفف من الاعتماد شبه الكلي على الغاز الروسي لاسيما بالنسبة إلى دول شرق وجنوب أوروبا. يبدو الاتحاد حاضرًا في المعادلة من خلال بعض الدول التي تنتمي إليه مثل قبرص اليونانية واليونان، ومن خلال شركات التنقيب عن النفط والغاز.
ب. روسيا: بالرغم من أن الغاز في شرق البحر المتوسط لا يشكِّل بديلًا عن الغاز الروسي ولا يزاحمه، إلا أن موسكو تريد أن تضمن احتكارها السوق الأوروبية من خلال حضورها أيضًا في أي مشاريع غاز مكمِّلة أو بديلة بحيث لا يؤثِّر ذلك سلبًا عليها، وهذا هو ما تفعله بالتحديد. موسكو حاضرة في الصراع على الغاز في شرق البحر المتوسط من خلال شركات التنقيب عن الغاز (حالة لبنان)(20)، ومن خلال التمويل المالي (حالة قبرص اليونانية(21) واليونان)، ومن خلال الوجود العسكري والاتفاقات الثنائية (حالة سوريا)(22).
ج. أميركا: تنظر إلى المنطقة من خلال إطار أوسع يتعلق بأولوياتها في الشرق الأوسط وترتبط غالبًا بضمان تدفق الطاقة وحماية إسرائيل. الولايات المتحدة حاضرة في منطقة شرق البحر المتوسط من خلال شركاتها ومن خلال علاقاتها ومبادرات الوساطة التي تقوم بها بين بعض أطراف النزاع بالإضافة إلى انتشارها العسكري في الشرق الأوسط. المثير للاهتمام أن نسبة اعتماد أميركا على نفط المنطقة آخذ في التراجع في السنوات القليلة الماضية، كما أن صادراتها من الغاز المسال إلى أوروبا آخذة في الازدياد، وقد يؤثِّر ذلك على نظرتها إلى غاز المنطقة مستقبلًا.
لا يستطيع بعض اللاعبين الذين يتطلعون إلى التصدير الاعتماد على أنفسهم مباشرة، وذلك إما بسبب تواضع كميات الغاز المكتشفة، وإما بسبب الافتقار إلى البنية التحتية اللازمة للتصدير، أو لارتفاع التكاليف. وباستثناء مصر، تكاد هذه المواصفات تنطبق على كل الدول الأخرى، وهو ما يحتم على اللاعبين المعنيين النظر في خيارات التصدير المشتركة التي تعتمد على دمج مصادر الغاز المكتشفة وعلى استغلال بنية تحتية قائمة. فإذا ما كان الغاز القبرصي مثلًا سيخصَّص للتصدير لأوروبا، فهو يحتاج إلى استثمارات هائلة في إنشاء محطات التسييل، إضافةً إلى خطوط النقل وضمانات لشراء الغاز بشكل مسبق من قبل مستهلكين. وتعتبر هذه العملية، عملية مكلفة وتحتاج إلى وقت وفيها مصاعب تقنية ولوجستية وأمنية، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على الحالة الإسرائيلية.
تمكنت مصر من قلب المعادلة الخاصة بها بعد اكتشاف حقل “ظهر” العملاق(24)، فبما أن لدى القاهرة بنية تحتية جاهزة لأعمال التصدير من بينها منشآت لتسييل الغاز على ساحل المتوسط، فهذا يعني أن القاهرة لن تحتاج إلى استثمارات ضخمة لنقل فائض الغاز إلى الأسواق الخارجية. الأفضلية الموجودة لدى مصر من الناحية اللوجستية بالإضافة إلى الدوافع السياسية لاستخدام ملف الغاز، أغرت لاعبين آخرين بالانضمام إليها من بينهم إسرائيل وقبرص، ولعل هذا ما يفسر التفاهمات الثلاثية المتزايدة بين هذه الأطراف.
من هذا المنطلق بالتحديد يمكن فهم الاتفاق الأخير الذي جرى بين تل أبيب والقاهرة(25)، ففي هذه الحالة، لن تحتاج تل أبيب إلى بناء منشآت تسييل أو خطوط نقل، وإنما ستستخدم البنية التحتية المصرية(26)، وبذلك تكون قد وفرت الكثير من الاستثمارات كما أنها ضمنت شراء مصر لغازها. لكن يتبين من هذه التوليفة الثلاثية (إسرائيل-مصر-قبرص) أن هناك نية لعزل الدول الثلاث الأخرى (تركيا ولبنان والسلطة الوطنية الفلسطينية).
والجدير بالذكر أنه في وقت من الأوقات كانت فكرة إنشاء أنبوب للغاز من إسرائيل إلى تركيا رائجة، فالأخيرة لاعب محوري في استيراد، واستهلاك، ونقل الغاز، كما أن خيار الأنبوب هذا هو الأقل كلفة والأكثر فائدة في الخيارات الأخرى المتاحة، لكن توتر العلاقة بين أنقرة وتل أبيب بعد العام 2009، بالإضافة إلى الانقلاب العسكري الذي جرى في مصر عام 2013، والتحولات الجيوسياسية التي حصلت في المنطقة جعلت تطبيقه الآن صعبًا، سيما في ظل استمرار الخلاف التركي-القبرصي (اليوناني)؛ إذ من المفترض أن يمر هذا الأنبوب عبر المياه القبرصية وهو ما لن تقبله الأخيرة، لكن ذلك لا يعني نهاية هذا الخيار؛ إذ لا تزال المفاوضات جارية(27)، كما أن الخيار المصري يعاني من مشاكل أبرزها استهلاك القاهرة الضخم للغاز وعدم استقرارها السياسي وهشاشة اقتصادها، وهو ما يجعل الاعتماد عليها للتصدير كخيار وحيد غير مضمون النتائج.
أمام هذه المعطيات هددت تركيا بشكل متكرر منذ العام 2012 على الأقل بأن أي إجراء أحادي من قبل قبرص اليونانية يتجاهل الحقوق التركية أو حقوق قبرص التركية (المذكورة أعلاه)، سيقابَل برد مناسب يضمن حقوق ومصالح تركيا. ومع مرور الوقت واستمرار تجاهل التحذيرات التركية، أصبحت أنقرة أكثر حزمًا في التعبير عن شكل الإجراءات التي ستتخذها وتتضمن:
1- حرمان الشركات التي تتجاوب مع قبرص اليونانية من فرص الاستثمار في تركيا.
2- السماح للشركات التركية ببدء عمليات المسح أو التنقيب في بعض المناطق المتنازع عليها (عام 2011 أعطت قبرص التركية الحق لتركيا بالتنقيب في محيطها).
3- منع السفن القادمة للتنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية وتتداخل مع مناطق تركيا أو قبرص التركية (عبر نشر قطع بحرية تركية في المناطق المتنازع عليها).
عملت أنقرة بالفعل على تنفيذ هذه التهديدات خلال فترات متعاقبة آخرها إرسال سفن عسكرية لاعتراض عمل شركة “إيني” الإيطالية وإجبارها على التراجع، كما أكدت في ختام اجتماع مجلس الأمن القومي الخاص بها على أنها لن تتنازل أبدًا عن مصالحها في المنطقة أمام اليونان وقبرص(28) خاصة أن هناك اعتقادًا سائدًا لدى بعض المسؤولين الأتراك يشير إلى نوايا قبرصية-يونانية تهدف إلى تسريع عملية التنقيب عن الغاز شرق البحر المتوسط على اعتبار أنه لن يكون بإمكان أنقرة الرد باستعمال القوة الصلبة بينما هي مشغولة في سوريا والعراق على وجه الخصوص.
على صعيد آخر، يتنامى الاحتقان اللبناني-الإسرائيلي منذ سنة على أقل تقدير وسط انتشار العديد من التقارير التي تقول بقرب وقوع حرب جديدة تستهدف إسرائيل من خلالها حزب الله، لكن إذا ما استثنينا العوامل الخارجية وحصرنا الخلاف بموضوع الغاز فقط، يمكن القول حينها: إنه بالرغم من التصريحات والتصريحات المضادة بين الطرفين، فإن الغالب من كل الأطراف هو الاحتواء الضمني للنزاع. وبالرغم من أن احتمال انتقال النزاع اللبناني-الاسرائيلي من حالة التوتر إلى حالة الحرب بشكل سريع وخلال فترة قصيرة أعلى بكثير من الاحتمال القائم في النزاع التركي-القبرصي، إلا أن الأخير يبدو الأكثر خطورة على المدى القصير والمتوسط، وذلك لأسباب عديدة لعل أهمها:
1- تتركز مصلحة كل من لبنان وإسرائيل -على الأقل في الوقت الراهن- على استخراج الغاز أكثر من أي شيء آخر، بينما يبدو الأمر مختلفًا بالنسبة إلى النزاع التركي-القبرصي، حيث تصر تركيا على ألا تقوم قبرص باستخراج الغاز قبل التوصل إلى اتفاق، بينما تصر الأخيرة على استخراجه بمعزل عن رأي طرفي النزاع الآخرين وهو ما يؤسِّس لمعادلة صفرية.
2- توجد مبادرات ووساطات لحل النزاع في الحالة اللبنانية- الإسرائيلية؛ إذ حاولت كل من قبرص وأميركا لعب هذا الدور(29). وعلى الرغم من أنهما لم تحققا شيئًا، إلا أن الوساطة بحد ذاتها تعتبر عاملًا إيجابيًّا يساعد على نزع فتيل الأزمة بين الفينة والأخرى مقارنةً بالوضع التركي-القبرصي (اليوناني) الذي يشهد تدهورًا ملحوظًا واستقطابًا عاليًا وتوترًا متصاعدًا.
في كلتا الحالتين، يوجد خلل كبير في ميزان القوى العسكري لصالح أحد الأطراف. وبالرغم من ذلك، لا يبدو أن هناك توجهات لدى تل أبيب على المدى القصير وربما المتوسط للجوء إلى القوة العسكرية لحسم النزاع، وذلك لأن وضعها حساس جدًّا لناحية انتشار منشآتها المتعلقة باستخراج الغاز في مناطق واسعة بعيدًا عن الشاطئ الإسرائيلي، الأمر الذي يجعلها عرضة للاستهداف السهل في حال تطور النزاع إلى عمل مسلح، وربما يكون هذا ما يفسر توجه تل أبيب مؤخرًا إلى تطوير قدراتها البحرية وتحصين منشآتها(30).
أما بخصوص الحالة التركية-القبرصية، فليس لدى الجانب التركي ما يخشاه في حالة النزاع مع قبرص خاصة أن البحرية التركية تعتبر من أقوى وأكبر القوى البحرية في المتوسط(31)، لكن ازدياد عدد الأطراف المتنافسة والمتنازعة أكبر في الحالة التركية-القبرصية وهو ما يعقِّد الموقف ويجعل إمكانية حصول خطأ في الحسابات لدى أحد الأطراف أعلى لاسيما عندما تتدخل الدول الكبرى بقوتها العسكرية لحماية سفنها أو مصالحها في تلك المنطقة.
علي حسين باكير
الجزيرة