شاهدت منذ أيام الفيلم الأمريكي-الألماني المشترك «القارئ» والمأخوذ عن رواية تحمل ذات العنوان للكاتب الألماني بيرنهارد شلينك (نشرت عام 1995). تبدأ أحداث الرواية في ألمانيا الخمسينيات وشخصيتاها المحوريتان هما سيدة متوسطة العمر عملت حارسة في أوسشفيتز، أحد معسكرات قتل اليهود الألمان والأوروبيين التي أقامها النازيون أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وشاب تجمعه بها علاقة غرامية قصيرة وحب الأعمال الأدبية العالمية التي اعتاد أن يقرأها لها في لقاءاتهما. تختفي الحارسة، وتدعى هانا شيمتز في الرواية وتلعب دورها في الفيلم الممثلة البريطانية الرائعة كيت وينسليت، من حياة الشاب مايكل برج بعد تغيير مقر عملها ثم تعود لتظهر بها وهي تحاكم في منتصف الستينيات مع حارسات سابقات في أوسشفيتز بتهمة الاشتراك في قتل اليهود. يحضر الشاب المحاكمة كطالب جامعي يدرس الحقوق ومهتم مع أستاذه وزملائه بمتابعة إجراءاتها ويكتشف وجود الحارسة هانا ويراها تعترف دون غيرها من الحارسات بأن أوسشفيتز كان بالفعل لقتل اليهود باستخدام غرف الغاز وبأنها والأخريات اشتركن في القتل لكونه الواجب الوظيفي المفروض عليهن من الرؤساء. يحكم على هانا بالسجن مدى الحياة ويعاود مايكل برج الذي أصبح محامياً ناجحاً الاتصال بها من خلال إرسال تسجيلات بصوته للأعمال الأدبية التي اعتادا قراءتها حتى تنهي هانا حياتها قبل أيام من الإفراج عنها أواخر الثمانينيات.
تقدم رواية وفيلم «القارئ» صورة شديدة الواقعية لقضايا ونقاشات المجتمع الألماني في الفترة التي تلت هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية وشهدت إعادة بناء ألمانيا بعد الدمار الشامل الذي حل بها. ولتوضيح السياق التاريخي والسياسي «للقارئ»: قسمت ألمانيا المدمرة في 1945 إلى شطرين، شطر شرقي عرف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية حكمه بوليسياً حتى انهياره واستعادة الوحدة الألمانية في 1990 حزب ماركسي-لينيني انضم إلى الكتلة الشرقية السابقة بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق وسعى إلى محو الماضي النازي بإدعاء التقدمية وتحويل الماركسية-اللينينية إلى عقيدة المجتمع بقرار قسري ودون نقاش. أما الشطر الغربي فتطور به نظام ديمقراطي واقتصاد رأسمالي وحملت دولته، ألمانيا الاتحادية مسؤولية التعامل مع جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها النازيون بحق اليهود في أوروبا وبحق الدول التي هاجموها عسكريا وارتكبوا بها جرائم حرب بشعة في وسط وشرق أوروبا. تعاملت ألمانيا الاتحادية بديمقراطية دولتها الجديدة، إن طوعاً بإرادة ساستها أو كرهاً للنفوذ القوي الذي تمتعت به داخلها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا كحلفاء انتصروا في الحرب العالمية الثانية واحتفظوا بوجود عسكري على أراضيها، مع جرائم النازية بمحاكمة قياداتها (محاكمات نورنبرغ الشهيرة) والقبول بدفع تعويضات لليهود ذهب الشق الأكبر منها لدولة إسرائيل. كذلك أجرت ألمانيا الاتحادية في الخمسينيات مصالحات هامة مع أعداء الماضي بريطانيا وفرنسا وتحولت إلى عضو فاعل في المنظومة الأمنية الغربية المقادة أمريكياً بالانضمام إلى حلف الناتو وشاركت في تأسيس النواة الأولى (اتحاد الفحم والصلب 1952) لما أصبح اليوم الاتحاد الأوروبي. وخلال الستينيات استكملت المصالحات بانفتاح ألمانيا الاتحادية على الاتحاد السوفييتي السابق ودول كبولندا والمجر ويوغسلافيا واعتذارها عن ماضي الجرائم النازية (الركوع الشهير للمستشار الألماني فيلي براندت أمام النصب التذكاري لضحايا النازي في العاصمة البولندية وارسو في 1970) وإعلان التزامها بمبادئ السلم العالمي كهدف أسمى لسياستها الخارجية. هذه المسارات المنفصلة لشطري ألمانيا استمرت حتى انهيار جمهورية ألمانيا الديمقراطية في الشرق وتحقق الوحدة في 1990 وبها تحولت دولة الشطر الغربي وعقيدتها السياسية المستندة إلى الديمقراطية والاقتصاد الرأسمالي إلى دولة الوحدة.
في هذا السياق التاريخي والسياسي، تعالج «القارئ» من خلال شخصيتيها المحوريتين الحارسة هانا شيمتز والشاب-المحامي مايكل برج الصعوبات والتناقضات التي واجهها المجتمع الألماني للتعامل مع الماضي النازي والنقاشات التي رتبتها. وتنطلق بحساسية فائقة من سؤالين جوهريين شغلا بالفعل الألمان طويلاً هما؛ أولاً، ما هي حدود المسؤولية القانونية والأخلاقية للمواطنين الذين انخرطوا في آلة الإجرام النازية كمنفذين لأوامرها إن كجنود في الجيش أو حراس في معسكرات القتل أو صغار موظفين في الأجهزة الأمنية ومن ثم تورطوا بوعي منهم أو دون وعي في إبادة وقتل وتعذيب أبرياء ومدنيين في ألمانيا وخارجها؟ وثانياً، ما هي حدود المسؤولية الأخلاقية للمجتمع الألماني ككل عن آلة الإجرام النازية التي خرجت من بين ثناياه وسيطرت عليه دون معارضة كبيرة على الرغم من معرفة الأغلبية بوحشية جرائم النازي أثناء ارتكابها (وهو ما أثبتته العديد من الدراسات لعلماء تاريخ واجتماع ألمان)؟ يأخذ هذان السؤالان في «القارئ» الصيغ الدرامية التالية: هل أذنبت هانا شيمتز قانونياً كحارسة سابقة في أوسشفيتز باشتراكها في قتل اليهود على الرغم من أنها كانت مجرد منفذة لأوامر تلقتها ووجب عليها تنفيذها؟ هل أخطأت أخلاقياً بالاشتراك في القتل وعدم معارضته مع أن مثل هذه المعارضة ونظراً لإجرام النازيين ربما كانت قد كلفتها حياتها؟ هل راجعت الحارسة ذاتها أثناء أعوام سجنها وتأملت أفعالها وشعرت بالذنب؟ وهل أذنب مايكل برج وأهله وأصدقاؤه وزملاؤه، هنا كممثلين للمجتمع الألماني، بالسماح للنازيين بارتكاب جرائمهم دون معارضة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ثم بالتستر بل والعطف على بعض من شاركوا في هذه الجرائم في أعقابها؟ هل أذنب مايكل برج بحبه للحارسة واستمراره في التعلق بها بعد الحكم عليها بالسجن ورعايتها خلال سنوات سجنها؟
لم تأت إجابات «القارئ» على سؤالي المسؤولية الفردية للمواطنين القانونية والأخلاقية ومسؤولية المجتمع أحادية، بل تناقضت لتعكس بحرفية وجاذبية عالية التنوع الواقعي للمواقف داخل المجتمع الألماني. فالحارسة وإن أبدت شيئا من الندم على أفعالها في نهاية حياتها عبرت عنه وصيتها وبها تبرعت بمدخراتها للناجية الوحيدة من بين مجموعة من النساء اليهوديات كانت مسؤولة عنهن قبل هزيمة النازية وإغلاق معسكر أوسشفيتز، إلا أنها أبداً لم تحد عن قناعة أنها كانت تنفذ أوامر فرض عليها قانوناً تنفيذها ومن ثم لم تذنب. وجوهر الإجابة هذه هو وضع القانون بمفهومه الإجرائي أي تنفيذ الأوامر وطاعة السلطات فوق القانون بمضامينه الإنسانية والأخلاقية المراد منها إحقاق الحق والعدل وتغييب الظلم. للجهة الأخرى تميل إجابة مايكل برج الذي يرى الحارسة مذنبة وإن عطف عليها لسابق حبه لها. أما السؤال حول مسؤولية المجتمع فيراها عدد من شخصيات الرواية، أبرزهم بعض زملاء مايكل برج في دراسة الحقوق من ذوي القناعات اليسارية، حاضرة بقوة إلى حد اتهام كل من عاصر النازية بالتواطؤ الصامت مع إجرامها. بالمقابل يذهب أستاذ القانون الذي يتعلم عليه مايكل وزملاؤه، ومع كونه يهودي ألماني، إلى أن المجتمع ككل لم يذنب بالمعنى القانوني بل أخطأ أخلاقياً ومن ثم يصبح المطلوب هو الاعتراف بالخطأ والعمل على عدم تكراره والتصالح تدريجياً مع الماضي النازي بالاعتذار للضحايا وتعويضهم. لهذا التناقض والتنوع في التعامل مع سؤالي المسؤولية الفردية والجماعية تعود روعة «القارئ» كرواية وكفيلم. فالمجتمعات البشرية، والمجتمع الألماني يقف هنا كنموذج لها، أبداً لم تنظر للمراحل واللحظات السوداء في تاريخها على نحو أحادي إن بالإدانة المطلقة أو التبرير الكامل. وتراوحت دوماً ومازالت استجابات المجتمعات بين إدانة جزئية وتبرير جزئي للماضي سواء نظرنا إلى أمريكا في إبادتها للسكان الأصليين من الهنود الحمر وعنصريتها في الماضي إزاء المواطنين من أصول أفريقية وفرنسا المستعمرة في الجزائر وعنفها المتكرر على مدار قرن ونيف من الزمان أو تناولنا تركيا وجرائم الإبادة التي ارتكبتها ضد الأرمن وجرائم الاستعمار الياباني في آسيا وأخيراً الإجرام النازي في ألمانيا 1933-1945. «القارئ» تقول لنا أن المجتمعات البشرية أعجز من أن تضع باستمرار الحق والعدل فوق كل الاعتبارات الأخرى لعيشها المشترك وأرقى من أن تبرر ماضيها السلبي بدافع الخوف من نتائج الاعتراف به أو امتناعا عن الاعتذار عنه.
عمرو حمزاوي
القدس العربي