جاء إعلان روسيا عن اتفاقٍ بشأن جنوب سورية (محافظات القنيطرة درعا السويداء) يقضي بسحب القوات والمليشيات الإيرانية منها (تصريح مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا)، من دون تشاور مع حليفيها، النظام السوري وإيران، ليعكس رغبةً روسيةً في تأكيد انفرادها بالتقرير على الأرض السورية؛ ونجاحها في إدارة التوازنات بين معظم الأطراف، والاتفاق معها على ترتيباتٍ ميدانيةٍ على أسس تحديد مناطق النفوذ ووقف إطلاق النار، تمهيدا لتحريك ما تسميها العملية السياسية.
أثار الإعلان الروسي ردود فعل مختلفة ومتعارضة من إعلان طهران “أن لا وجود لقوات إيرانية في الجنوب السوري” (تصريح محبتي فردوسي، السفير الإيراني في عمّان)، وتأييدها الجهود الروسية لإخراج الإرهابيين من المنطقة (تصريح علي شمخاني، أمين مجلس الأمن القومي الإيراني)، وانتقاد صحيفة قانون، المقرّبة من الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في تقرير لها بشأن “الدور الروسي في سورية”، للموقف الروسي، حيث كتبت إن “بوتين وضع إستراتيجية مع (رئيس النظام السوري) بشار الأسد تتخطى إيران”، مضيفة أن “روسيا أصبحت مصممة على محاولة طرد إيران من مناطق مختلفة في سورية”(القدس العربي:4 /6/ 2018)، وإعلان النظام عدم وجود قوات إيرانية في سورية، بل ضباط مستشارين
يعملون مع الجيش السوري بطلب من الحكومة السورية (تصريح رئيس النظام)، وربطه بقاهم بقرارها، في محاولةٍ للتغطية على الوجود الإيراني، بالالتفاف على الإعلان الروسي، وشرعنة هذا الوجود، فالنظام يريد تثبيت الحالة الراهنة القائمة على ثنائية الرعاية؛ بحيث تتاح له فرصة المناورة بينهما، للتهرّب من الاستحقاقات السياسية، وإنكاره حصول اتفاق (تصريح وزير الخارجية وليد المعلم)، وربطه أي اتفاق بانسحاب القوات الأميركية من قاعدة التنف، ونفي مسؤول إسرائيلي كبير التوصل إلى تفاهماتٍ مع روسيا بشأن انسحاب القوات الإيرانية وحزب الله من جنوب سورية، مع أنه اعتبر الموقف الروسي من المطالب الإسرائيلية إيجابيا، وإعلان فصائل المعارضة المسلحة في الجنوب السوري التي لم يسألها أحد رأيها، عن رفضها أي اتفاقٍ يسمح بعودة النظام إلى المنطقة، واستعدادها لمواجهة التطورات.
واقع الحال أنه ليس ثمّة اتفاق إلى الساعة، ذلك لأن المفاوضات الروسية حول الاتفاق لم تشمل كل القوى الموجودة على الأرض، خصوصا الولايات المتحدة الأميركية، الضامن الثالث لاتفاق خفض التصعيد في المنطقة، مع كل من روسيا والأردن، كأنها بإعلانها اعتبرت الموافقة الأميركية تحصيل حاصل؛ في ضوء اتفاقها مع الطفل المدلل لدى واشنطن، إسرائيل، واستجابتها لاعتباراته الأمنية، أو اعتبرت أن البدء بتنفيذ التفاهم مع إسرائيل سيمنح موسكو أرجحية في مفاوضاتها مع واشنطن حول المنطقة، وصياغة اتفاق خفض التصعيد، في ضوء التطورات الجارية، ودفعها إلى القبول بالمطلوب منها ثمنا لتلبية هواجس إسرائيل الأمنية: الانسحاب من التنف؛ حيث انتهى مبرّر وجود القاعدة العسكرية، بانتهاء محاربة الإرهاب في هذا الجزء من الأرض السورية، وفق تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، علما أن الإدارة الأميركية أعطت إشاراتٍ متضاربة في هذا الخصوص، جسّدها طرح ديفيد ساترفيلد، مساعد نائب وزير الخارجية، القاضي بـانسحاب جميع المليشيات السورية وغير السورية إلى عمق 20 – 25 كيلومتراً من الحدود الأردنية، ونقل مقاتلي المعارضة وأسرهم إلى إدلب (شمال)، وتسليم سلاحهم الثقيل إلى الجانب الروسي، عودة قوات الحكومة إلى الحدود الأردنية، وعودة مؤسسات الدولة إلى درعا، إعادة فتح معبر نصيب بين سورية والأردن، وانتشار نقاط للشرطة العسكرية الروسية، إضافة إلى تشكيل آلية أميركية – روسية، للرقابة على تنفيذ هذه البنود، ورفض الثنائي القوي في الإدارة مايك بومبيو، وزير الخارجية، وجون بولتون، مستشار الأمن القومي، هذا التصور المقترح، ودعوتهما إلى الضغط على روسيا، لتنفيذ التزاماتها في اتفاق الرئيسين، فلاديمير بوتين ودونالد ترمب، نهاية العام الماضي في فيتنام. ناهيك عن إجراء توسعةٍ لقاعدة التنف، وبناء قاعدة مقابلة لها على الجانب العراقي من الحدود. هذا بالإضافة إلى وجود مؤشر ميداني على عدم حصول اتفاق يتمثل في استمرار تدفق قوات النظام ومليشيات إيرانية إلى المنطقة، تعبيرا عن رفض إيراني نظامي للإعلان الروسي، ومحاولة للتأثير على صيغة الاتفاق النهائية.
انطوى التفاهم الروسي الإسرائيلي، وفق التسريبات الإعلامية، في لقاء وزيري الدفاع، سيرغي شويغو وأفيغدور ليبرمان، في موسكو، على إخلاء الجنوب السوري من القوات الإيرانية، انسحابها حتى طريق دمشق – السويداء؛ أي على بعد 60 – 70 كيلومتراً من حدود فصل القوات ما بين إسرائيل وسورية في هضبة الجولان المحتلة، على أن يتم ذلك تدريجيا وعلى مراحل؛ من دون تحديد سقف زمني، بحيث يتولى جيش النظام السيطرة على ثلاث نقاط إستراتيجية: نقطة الحدود مع الأردن جنوب درعا، وتل الحارة الذي تسيطر عليه الآن قوات ومليشيات إيرانية، وبصر الحرير (30 كيلومتراً شمال شرقي درعا).
ارتبط تحريك ملف الجنوب السوري باعتبارات أمنية واقتصادية وحسابات جيوسياسية خاصة، أولها سعي روسي إلى منع مواجهة إسرائيلية إيرانية، غدت حتمية في ضوء التصعيد العسكري والسياسي الإسرائيلي ضد الوجود الإيراني في سورية عموما، وفي الجنوب السوري خصوصا، بعد أن رصدت الاستخبارات الأردنية نشاطا إيرانيا مركبا في محافظتي درعا والسويداء، تحت غطاء عمل خيري، حفريات لإقامة منشآت غامضة، لجان تبشير بالتشيع في ريف درعا الغربي، تتبع الحرس الثوري، اعتبر خطوة على طريق إقامة جيب عسكري دائم في المنطقة، بدعوى محاربة الإرهاب والتصدّي لإسرائيل، ذكر تقرير أردني رسمي “إنها قد تشبه تجربة حزب الله في جنوب لبنان” (القدس العربي: 30/5/2018)، وإعلان الحكومة الإسرائيلية، في ضوء ذلك، نيتها تعديل مقاربتها للصراع في سورية وعليها، والانتقال إلى تدخل نشط يستهدف إسقاط النظام، ما لم يعمل على إنهاء الوجود الإيراني في سورية، تحول من شأنه تدمير الإنجازات الروسية في سورية، بما في ذلك تربعها على سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية، ذات الأهمية الإستراتيجية في المواجهة مع التحالف الغربي.
ثانيها، سعي روسي إلى تمكين النظام من السيطرة على المنطقة، وفتح معبر نصيب بعائداته المالية الضخمة من تنشيط التجارة مع الأردن والعراق وبعض دول الخليج ورسوم عبور الشاحنات، وإغراء حكومة الأردن بالعائدات المالية التي ستدر عليها من فتح المعبر، ما يسمح لها بمعالجة جزء من أزمتها المالية الخانقة (التقديرات تبلغ نصف مليار دولار سنويا) للتخلي عن رعاية الفصائل المسلحة في المنطقة، واستثمار فتحه في استدراج تركيا إلى التطبيع مع النظام السوري، عبر فتح الطريق أمام التجارة التركية مع دول الخليج، بفتح طريق غازي عنتاب حلب، ومنه إلى دمشق فالأردن. وقد دفعها هذا إلى تحرك إعلامي وسياسي، للضغط على الفصائل المسلحة في الجنوب السوري، لإقناعها بالدخول في المصالحة مع النظام، بدلا من التعرّض لعمل عسكري ساحق، عبر عقد اجتماعاتٍ مع شخصياتٍ مدنيةٍ، وإلقاء مناشير على القرى والبلدات تخيّرها بين مصير الغوطة الشرقية والحفاظ على حياتهم ومدنهم وقراهم ومصادر رزقهم، ومحاولة إغراء الفصائل بتحويلها إلى قواتٍ محليةٍ، تعمل مع الشرطة العسكرية الروسية، وطمأنة المواطنين؛ بالتعهد بعدم دخول قوات النظام إلى المدن والبلدات، ترافق ذلك مع دفع قوات نظامية ضخمة، ترافقها مليشيات محلية، إلى مناطق سيطرة النظام في الجنوب، إلى مزيد من الضغط، ولتأكيد جدية التهديدات.
غير أن سعي موسكو إلى فرض سيطرة النظام على الحدود مع الأردن، وفتح معبر نصيب،
اصطدم بمعضلة عسكرية، حيث ترتب على اعتراض الفصائل المسلحة في الجنوب السوري على فكرة المصالحة (لم تكتف بالاعتراض، بل لاحقت الشخصيات التي شاركت في المفاوضات مع النظام، واغتالت 18 منهم) وإعلانها أنها ستقاتل حتى النهاية، دفاعا عن مهد الثورة وحماية المواطنين من بطش النظام والمليشيات الطائفية، فقوات النظام غير قادرة وحدها على مواجهة هذه الفصائل (عدد مقاتلي الفصائل فاق 50 ألف مقاتل)، ما دفعها (موسكو) إلى محاولة إقناع إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، بغض النظر عن مشاركة المليشيات الإيرانية على أن تنسحب فور انتهاء المعركة، وبسط قوات النظام سيطرتها على المنطقة. الأمر الذي دفع واشنطن، حسب مصادر متطابقة، إلى توجيه تحذير شديد اللهجة إلى الشريك الروسي في اتفاق خفض التصعيد في الجنوب، مفاده بأن القوات الأميركية الموجودة في محيط الحدود في التنف ودرعا ستقصف فورا أي قوات سورية تدخل إلى منطقة الجنوب، برفقة قوات إيرانية أو مليشيات عراقية ولبنانية.
لم يبق أمام موسكو لإنجاح خطتها سوى انتظار لقاء الدول الضامنة اتفاق خفض التصعيد في الجنوب، الذي سيعقد في عمّان على مستوى نواب وزراء الخارجية، علها تنجح في الاتفاق معهم على صيغةٍ تفرض على الفصائل المسلحة، وتدفعها إلى القبول بالمصالحة.
علي العبدالله
العربي الجديد