كثيرة هي معالم المأزق الذي تعيشه إيران هذه الأيام، والذي يستحق من قيادتها وقفة هادئة، بعيدا عن استعراض التصريحات التقليدية التي لا تغير في حقائق الواقع شيئا.
منذ بداية التدخل الإيراني في سوريا؛ قلنا إن القيادة الإيرانية ستدرك ذات يوم أن قرارها ذاك هو أسوأ قرار اتخذته منذ الثورة الإيرانية عام 1979، وقلنا أيضا إن سوريا ستكون بالنسبة لإيران أشبه بأفغانستان للاتحاد السوفياتي.
والحال أن التدخل الإيراني في سوريا لم يكن سوى حلقة في مسلسل عنوانه غرور القوة واتساع الأحلام، والاقتناع بأن إيران ستكون القوة المهيمنة في المنطقة، وأن بوسعها تغيير حقائق التاريخ والجغرافيا؛ بصرف النظر عن تفسير هذه الأحلام وما إن كانت بخلفية قومية أم مذهبية.
حين طال النزيف في سوريا، وصار الاقتصاد الإيراني في وضعٍ حرِج؛ اضطُرت قيادتها (المحافظون الذين يتحكّمون في السياسة الخارجية وليس الإصلاحيين الذين هم أداة التنفيذ) إلى التخلي عن المشروع النووي، الذي يمكن القول إنه من أولى حلقات المسلسل المشار إليه.
“يتمثل المعلم الأهم من معالم المأزق الإيراني راهنا في العقوبات الأميركية الجديدة التي تستهدف برنامج الصواريخ أولا، والتغيير السياسي فيما يتعلق بالكيان الصهيوني ثانيا، وهي عقوبات لا تعرف طهران كيف ستتعامل معها، فيما سيكون خيار التشدد والعودة إلى التخصيب أكثر سوءا من خيار التساهل”
ولكننا -من دون ادعاء للحكمة والذكاء- توقعنا أن هناك ما سيتبع هذا التخلي عن المشروع الذي كلّف بناؤه عشرات المليارات، وكلف أضعاف ذلك بكلفة العقوبات، ثم تمّ التخلي عنه من أجل رفع العقوبات حين لم يعد بالإمكان احتمال تبعاتها.
هذا يحيلنا الآن إلى المعلم الأهم من معالم المأزق الإيراني راهنا؛ ممثلا في العقوبات الأميركية الجديدة التي تستهدف برنامج الصواريخ أولا، والتغيير السياسي فيما يتعلق بالكيان الصهيوني ثانيا، وهي عقوبات لا تعرف طهران كيف ستتعامل معها، فيما سيكون خيار التشدد والعودة إلى التخصيب أكثر سوءا من خيار التساهل.
كما أن التراجع الاقتصادي سيفرض إيقاعه على الداخل الشعبي الذي ينتظر عوائد اتفاق النووي، ولن يسكت على الأرجح على انقلاب الأوضاع إلى عكس المأمول، وهو الذي خرج إلى الشوارع محتجا قبل شهور، وإن لجمّته السطوة الأمنية.
بين هاتين الحلقتين من المسلسل -وهناك غيرهما بالطبع- حضر العراق؛ فبدل أن تقتنع إيران بما حازته من الكعكة العراقية، ممثلا في سيطرة المقربين منها على الدولة، وقبل ذلك إفشال مشروع غزو أميركي كان يستهدفها بكل تأكيد؛ مالت إلى دعم خيارات طائفية هناك، أفضت إلى نزيف اقتصادي ومسلسل عنف دموي لم يتوقف إلى الآن.
نبدأ من هنا، من العراق الذي كان بيد إيران لكنها اختارت دعم الإقصاء والطائفية فيه، كما دعمت طبقة سياسية فاسدة أهلكت الحرث والنسل، ونفذت أكبر عملية نهب عرفها التاريخ البشري.
أين هو العراق اليوم؟ تقول لنا الانتخابات الأخيرة أمرا بالغ الأهمية، وهو أن الشعب العراقي -ومن ضمنه الشيعة أنفسهم- قد ضاق ذرعا بالهيمنة الإيرانية. صحيح أن القائمة التي دعمتها إيران قد حصلت على المرتبة الثانية في الانتخابات، لكن الصحيح أيضا -وبما لا يقل أهمية- هو أن القائمة الأولى والثالثة اللتين مثلتا غالبية الشيعة كانتا في خط آخر لا تريده.
والحال أن تشكيلة الحكومة القادمة -أيا كانت- لن تغير حقيقة أن غالبية شيعية باتت ضد الهيمنة الإيرانية على البلد، وإذا أضفت إليهم العرب السنّة والأكراد، فإن من العسير المضي في ترديد تلك المقولة السطحية عن أن إيران تحتل أربع عواصم عربية؛ لأنها جميعا تتفلت منها ولا تخضع لها، كما سيتبدى في السطور التالية.
بعد العراق، يمكن توجيه الأنظار إلى سوريا، وهنا نجد تطورات بالغة الأهمية بدأت تتبدى خلال الأسابيع الأخيرة، وعنوانها الصراع الروسي الإيراني في سوريا.
في هذا السياق؛ يحلو للبعض أن يتحدث بسطحية عن انتصار إيران في سوريا، أما الحقيقة فهي أن ذلك أصبح وهما بمجرد استدعاء الروس إليها، وهو استدعاء لا يعني غير الاعتراف بالهزيمة، ومن ثم المجيء بشريك كبير لن يقبل حتى بمنطق الاقتسام المتساوي.
لا خلاف اليوم على أن روسيا هي الأهم في سوريا، وهي من فاوضت الأتراك في الشمال، وهي من تفاوض الأميركان والأردنيين والإسرائيليين في الجنوب، وهي من فرض على إيران أن تبتعد عن الحدود مع الكيان الصهيوني، وهي من ستفرض عليها ما هو أكثر من ذلك تاليا.
ويعني ذلك أن البلد الذي كان خاضعا لنفوذها بالكامل، وكان يمكن أن يكون شعبه متصالحا معها لو دعمت ثورته، ولو بتغيير مقنع في بنية النظام قبل عسكرة الثورة، بل حتى بعد ذلك؛ هذا البلد لم يعد لها -كما كان- ولن يعود، حتى لو تجاهلنا ما يسيطر عليه الأتراك (حوالي 10% أو أكثر)، أو ما يسيطر عليه الأميركان (ثلث البلد ونصف ثرواته)، بينما لم يكن لهم أي شيء قبل ذلك.
“ما يشهده مشروع التمدد الإيراني في المنطقة من تراجع هو نتاج أحلام غير واقعية، ولولا أن من يتصدرون المواجهة مع إيران لم يكونوا موفَّقين أبدا في تخطيط المواجهة ولا في ترتيب الأولويات، لكان الوضع أسوأ بكثير؛ لكن الأهم هنا هو أن استعداء الغالبية في المنطقة لم يكن ليمرّ بدون تداعيات سيئة على الجميع”
ماذا عن اليمن الذي كان دفْعُ الحوثيين للسيطرة عليه بقوة السلاح جزءاً من أحلام المشروع الإيراني؟ هل هناك عاقل يمكن أن يقول إن ما بأيدي الحوثيين الآن سيبقى بأيديهم، رغم كل ما فقدوه حتى الآن (تطورات الحديدة الأخيرة بالغة الأهمية)؟
ما من عاقل يعتقد ذلك، وأقصى ما يمكن أن تحلم به إيران هو تسوية تمنحهم (الحوثيين) حصة ما في العملية السياسية، وهي حصة لن تُكرر بكل تأكيد تجربة حزب الله في لبنان.
في هذا الأخير (لبنان)، يمكن القول إن وضع إيران هو الأقوى بقوة حزب الله، لكن ذلك مبالغ فيه أيضا؛ فلبنان بلد متنوع الطوائف ولا يمكن أن يخضع لإيران تماما مهما بلغ نفوذ حزب الله.
ثم إن تطورات سوريا والعراق واليمن، وفشل مشروع التمدد الإيراني برمته، ستؤثر بالضرورة على لبنان، من دون أن يغيّر ذلك في وزن الشيعة كمكون مهم من مكونات المجتمع اللبناني.
وقد نضيف هنا احتمالات تصاعد نبرة الضجر الشيعي من التبعية لإيران، كما جرى في العراق؛ وذلك بعد تراجع نبرة التصعيد والحشد المذهبي السائدة، وربما بعد اتضاح الفشل في سوريا التي قُتل فيها آلاف من خيرة أبناء الطائفة أو أصبحوا معوقين.
كل ذلك الذي مرّ آنفا هو نتاج أحلام غير واقعية، ولولا أن من يتصدرون المواجهة مع إيران لم يكونوا موفَّقين أبدا في تخطيط المواجهة ولا في ترتيب الأولويات، لكان الوضع أسوأ بكثير؛ لكن الأهم هنا هو أن استعداء الغالبية في المنطقة لم يكن ليمرّ بدون تداعيات سيئة على الجميع.
وهذه هي الكارثة التي نتابعها منذ سنوات، ولا يعرف أحد متى ستتوقف، وربما لن تتوقف من دون تسوية إقليمية كبيرة مع العرب وتركيا، لا بد لها من رُشد لدى قادة إيران يتجاوز الأحلام غير الواقعية، مع رشد لدى البقية بالطبع.
وذلك لكي يتم التوصل إلى هذه التسوية الإقليمية قبل أن تأكل الكارثة الأخضر واليابس، مع أنها أكلت الكثير والكثير إلى الآن، ولم يستفد منها سوى أعداء الأمة، وفي مقدمتهم الصهاينة والأميركان والروس؛ ودمار العراق واليمن وسوريا يتبدّى أمام أعين الجميع.
المصدر : الجزيرة