خيارات إيران في جنوب سورية

خيارات إيران في جنوب سورية

يبدو أن اقتراح روسيا للتسوية في جنوب سورية لا يلقى قبولاً لدى إيران -وسوف تكون حسابات طهران هي التي تقرر بشكل أساسي ما إذا كان الصراع بين إسرائيل وإيران سيتطور ليخرج على نطاق السيطرة.
*   *   *
من الربيع العربي إلى ولادة “الدولة الإسلامية”، ومن اندلاع أربع حروب أهلية إلى أزمة الخليج، لم يكن الشرق الأوسط أكثر اضطراباً مما هو الآن في كل تاريخه الحديث. أما أن المنطقة أفلتت من حرب تقليدية كبيرة خلال هذه الفترة المتقلبة التي كانت فيها الدبلوماسية الأميركية غائبة فعلياً، فمعجزة حقيقية.
لكن هذه السلسلة من تعاقب الحظ السعيد ربما لا تدوم طويلاً. فمع هزيمة “الدولة الإسلامية” عسكرياً منذ العام الماضي، تحولت الحرب الأهلية السورية إلى ساحة معركة للقوى الإقليمية، رافعة من خطر نشوب حرب بين الدول. ويشكل جنوب سورية المكان الذي تبدو فيه الأمور أكثر قابلية للاشتعال. ويعمل الخصمان اللدودان، إيران وإسرائيل، في قرب كبير في ذلك الجزء من البلد، وهما عالقتان في أزمة عسكرية يمكن أن تتصاعد بسهولة.
تريد إسرائيل أن تظل إيران بعيدة عن زاويتها الشمالية الشرقية، وأن تصبح في النهاية خارج سورية كلها. ومن ناحية أخرى، ليست لدى إيران أي نية أو مصلحة في المغادرة، بعد أن قدمت الكثير من الدم والمال لإنقاذ نظام الأسد والسعي إلى تحقيق مجموعة من المصالح الاستراتيجية في سورية وعبر كامل المنطقة.
لإجبار طهران على التعاون، لجأت إسرائيل إلى القوة العسكرية، فقصفت أهدافاً لإيران وحزب الله في سورية بشكل متكرر. لكن إيران لم تتزحزح ولعقت جراحها بعد كل ضربة، بل إنها ردت بإطلاق النار مؤخراً على مواقع إسرائيلية في مرتفعات الجولات، وهو ما ردت عليه إسرائيل بدورها بإطلاق أكبر هجوم يُشن على سورية منذ حرب يوم الغفران في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1973.
في الآونة الأخيرة، تدخلت روسيا، أقوى لاعب في سورية، من خلال تقديم تسوية دبلوماسية لمنع الأمور من التطور والخروج على السيطرة: سوف تسمح إسرائيل لجيش الأسد بتولي السيطرة على الجنوب من دون إعاقة، في مقابل سحب إيران قواتها من المنطقة -حتى أن موسكو اقترحت أنه باستثناء أفراد الأمن التابعين لها، فإن على القوات الأجنبية الأخرى كافة، بما فيها إيران وحزب الله وتركيا والولايات المتحدة، أن تنسحب من سورية في وقت لاحق.
للمبادرة الروسية فوائد، بطبيعة الحال؛ حيث يمكنها أن توقف مؤقتاً الدينامية الأكثر قابلية للانفجار في الصراع السوري -بين إيران وإسرائيل. لكنها تفتقر على ما يبدو إلى مكون رئيسي واحد: أن تقبلها إيران.
ليس من الواضح على الإطلاق أن موسكو تشاورت مع طهران قبل التوصل المزعوم إلى تفاهم مع إسرائيل. ولكن، حتى بافتراض أنها فعلت، فإن من الصعب تخيل أن رد طهران كان إيجابياً. وتعرف إسرائيل أن روسيا لا تستطيع أن تفرض تفضيلاتها على إيران التي تنتشر وحداتها العسكرية ووكلاؤها على نطاق واسع وبأعداد كبيرة، وتشكل أقوى قوات موجودة على الأرض في سورية. وحتى لو تمكنت روسيا من إقناع إيران بسحب القوات التي تحت سيطرتها إلى مسافة 60 إلى 70 كيلومتراً إلى الشرق من خط وقف إطلاق النار في مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، فإن إسرائيل ستظل متشككة إزاء قدرة روسيا على فرض الامتثال في حال حدث انتهاك إيراني أو تغير في النوايا. ففي نهاية المطاف، وبقدر ما تظل الوساطة الروسية قيّمة، فإن قرار طهران هو ما يهم أكثر ما يكون.
للتعامل مع الوضع الراهن، تمتلك إيران ثلاثة خيارات رئيسية، ولكل منها ميزاتها وعيوبه: الأول، تجاهُل الاقتراح الروسي والإبقاء على الوضع الراهن؛ والثاني، إزالة كل القوات التي تحت إمرتها في جنوب سورية، وإنما تعزيز تواجدها في الأماكن الأخرى؛ والثالث، تفكيك بنيتها التحتية العسكرية في سورية، وإنما نسخ  نموذج حزب الله اللبناني، كما فعلت في العراق، عن طريق العمل من خلال وكلاء سوريين.
يحرر الخيار الأول إيران من أي التزامات، لكنه ينطوي على خطر إغضاب روسيا والتسبب بصدام رئيسي مع إسرائيل، وهو ما قد يفضي إلى التورط العسكري لواشنطن التي تبحث في ظل الرئيس ترامب عن أي عذر لمعاقبة إيران. وتحت هذه الظروف، يمكن أن تحاول إيران تجنب الحرب عن طريق امتصاص أي هجمات إسرائيلية إضافية ضد قواتها في سورية على أمل أن تقوم روادعها العسكرية المتمثلة في حزب الله في لبنان وحماس في غزة، بمنع تصعيد إسرائيلي. لكن هذا الرادع يمكن أن يفشل. وإذا بدأت إسرائيل في زيادة إيقاع، ومدى وفتك هجماتها، فإن من غير المرجح أن تشاهد قيادة قوات الحرس الثوري الإيراني إسرائيل وهي تسحق كل أصولها في سورية ولا تفعل شيئاً حيال ذلك.
يمكن أن يخفف الخيار الثاني غضب إسرائيل في الوقت الحالي، لكنه سيضعف موقف إيران التفاوضي، وربما لا يحل المشكلة على أي حال، من منظور إسرائيل. فبعد كل شيء، قالت إسرائيل إنها لن تتسامح مع أي تراكم للبناء العسكري الإيراني في سورية، وهو ما قد يعني أن ضرباتها لن تتوقف إلى أن تتوقف إيران ووكلاؤها عن العمل في سورية. ربما تتساءل طهران: لماذا تتنازل لعدو لن يكون راضياً حتى تتحقق كل أهدافه؟ وإذا كانت أهداف إسرائيل متطرفة وغير قابلة للتفاوض، فإن إيران ربما ترى عندئذٍ أنه سيكون من الأفضل لها أن تقف بحزم وأن تجبر إسرائيل على التوصل إلى نوع من التسوية.
سيكون من شأن الخيار الثالث أن يزيل فعلياً خطر نشوب الحرب مع إسرائيل، بما أنه سيفي بكل المطالب الإسرائيلية، لكنه سوف ينهي أيضاً كل آمال إيران في بناء قوة صلبة في سورية، وسيقوض كل المنافع التي تم جنيها، بما في ذلك الردع الاستراتيجي الإضافي. وسوف تريد إيران أيضاً أن تسعى إلى تطوير قوتها الناعمة في سورية كوسيلة لإدامة نفوذها، وإنما من دون وجود جنود على الأرض، ويمكن أن يكون ذلك أكثر تحدياً بكثير.
مع حرمان إيران من النفوذ العسكري في سورية، سوف يعمل الأسد، بكونه الدكتاتور الذي هو عليه، بسهولة أكبر على عرقلة جهود إيران لتكوين وكيل لها يمكن أن يعمل خارج نفوذ الدولة السورية، مثلما يفعل حزب الله في لبنان. وكذلك، سوف يكون خلق دائرة شيعية في سورية ذات أغلبية سنية تحت حكم علوي (بافتراض بقاء الأسد في السلطة)، من دون ناشطين إيرانيين وتمويل لرجال الدين، وتقديم التدريب، والتسليح والتبشير، مستحيلاً تقريباً. وأخيراً، من دون قوة عسكرية في سورية، سوف تكون إيران أقل قدرة على الدخول في صفقات اقتصادية مع النظام السوري، والتي ستساعد على تمويل مثل هذا المشروع الطائفي الطموح في سورية.
لا نعرف أياً من هذه الخيارات ستختاره إيران لأننا لا نملك أي فكرة عن حجم القيمة الاستراتيجية التي تضعها إيران لتواجدها العسكري في جنوب سورية. ومع أن طهران براغماتية بطبيعتها، فإن الأيديولوجيا تتغلب في بعض الأحيان على العقلانية في السياسة الخارجية الإيرانية، كما تشهد بذلك الأمثلة العديدة من السلوك الإيراني في حرب إيران-العراق. وربما يتصدر الصراع مع إسرائيل كل الاعتبارات الأخرى.
سوف يعتمد القرار الإيراني أيضاً على وجود (أو عدم وجود) حوافز إيجابية. فإذا لم يُعرض على إيران شيء في مقابل تعاونها، فإننا يجب أن نتوقع منها، منطقياً، أن تتمسك بموقفها. وإذا كان هناك، من ناحية أخرى، مجال للتفاوض، ربما على مصير القاعدة العسكرية الأميركية في التنف، فإن إيران ربما تكون أكثر احتمالاً لتقديم تنازلات.
يبدو أن إسرائيل قد أغلقت الباب أمام المساومات، بالنظر إلى الخطوط الحمراء الكثيرة التي وضعتها في سورية، والتي تمنع كلها إيران وحزب الله من التمتع بأي نوع من التواجد العسكري. ومن المؤكد أن هذا طلب إسرائيلي مشروع، بما أن إيران ليس لها شأن بنشر قوات وصواريخ بعيدة المدى خارج أراضيها الخاصة ومباشرة عند حدود إسرائيل الشمالية الشرقية، لكن هذه هي الحقائق على الأرض. وقد قلل رفض إسرائيل القبول بأهداف أكثر واقعية في سورية من آفاق التوصل إلى تسوية سلمية متفاوض عليها.
في غضون أيام قليلة، سوف يأمر الأسد لواءيه المدرعين الرابع والخامس باستعادة مدينة درعا وضواحيها، إلى جانب المنطقة المجاورة على حدود إسرائيل. وإذا عملت إيران ضد الرغبات الإسرائيلية والروسية ودمجت رجالها في الجيش السوري، فإن ذلك قد يعني أن طهران رفضت العرض الروسي عملياً. أما إذا ظلت بعيدة، فإن ذلك يشكل إشارة -ولو أنها ليست حاسمة- على أنها منفتحة على حل. ولكن، حتى عندئذٍ،  سوف يظل الشيطان كامناً في التفاصيل، وسيظل على روسيا أن تري إسرائيل، والولايات المتحدة، والأردن أنها ليست راغبة فحسب، وإنما قادرة على تحويل مبادرتها الدبلوماسية إلى واقع.

بلال صعب

الجزيرة