لم تتناول كتب التاريخ شخصية حاكم مثلما تناولت شخصية هارون الرشيد. ولم يضع المؤلفون تحليلا لمواقف ملك بقدر ما حللوا في التركيب السياسي لهارون الرشيد. لم تنبش الحكايات ليالي أنس وطرب وشعر وملح مثلما تسللت إلى ليالي الرشيد، يكفي أن “ألف ليلة وليلة” الكتاب الأكثر شهرة في العالم يقوم بمجمله على شخصية الرشيد.
ولم يتجرأ أحدٌ على الطعن في ظهر قائد عربي مثلما تجرأ كثيرون على الإساءة للرشيد بمختلف الطرق، سواء في ما يتعلق بأخلاقه هو، أو بسلوك زوجاته وجواريه أو شقيقته العباسة أو سيرة ولديه.
ولا تكاد تمر سنة دون أن يعيد شيد ما تذكير العرب بالرشيد، سواء من خلال الكتب والمناسبات أو من خلال الدراما التلفزيونية التي اتكأت مرارا عليه. كما في هذا الموسم الرمضاني الذي لقي فيه عرض مسلسل “هارون الرشيد” أكثر نسب المتابعة ارتفاعا على مستوى العالم العربي.
الرشيد الواقع والرشيد الخيال
لكن من يتذكر اليوم أن الرشيد ذاك لا يزال أسيرا لدى الإيرانيين، تحتجزه طهران وترفض إعادته إلى أهله العرب رغم مطالبة رسمية به قام بها الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر، حسبما ذكر المؤرخ سالم الآلوسي. حين قام وزير الخارجية العراقي الأسبق عبدالجبار حامد الجومرد برفع صوته بهذا المطلب. كان الجومرد ابن الموصل مولعا بالرشيد ومجده. حتى أنه ألف كتابا عنه حمل عنوان “هارون الرشيد – حقائق عن عصره”. لكن إيران رفضت رفضا قاطعا إعادة رفاته.
لا يخفى بالطبع على أحد لماذا رفض الإيرانيون إعادة الرمز العربي إلى العرب، وهو الذي شهد عهده توسع الدولة وبسط سلطاتها على الأراضي الشاسعة.
لم يتوقف الأمر على ما تمثله شخصية الرشيد من قوة قيادية عربية لا تريد إيران ولا غيرها، للعرب أن يتذكروها. بل هناك ما هو أبعد من السياسة وحدها.
ليس عاديا أن يكون أول ما يقوله لك سكان مدينة آخن الألمانية، أن أكثر شخصية مشهورة فيها هي شخصية الزعيم العربي “هارون الرشيد”. ما الذي جاء بالرشيد إلى أقصى غرب أوروبا، حيث آخن أو “أكوس غرانا” كما هو اسمها القديم، عاصمة العالم المسيحي القديمة، ليعيش فيها أكثر من ألف سنة بعد موته؟ الجواب في البعد الحضاري الذي يمثله الرشيد، والذي تجسد في تطور العلوم في عصره.
بغداد الرشيد وبغداد اليوم
في سن الثانية والعشرين تولى الرشيد الحكم. وفي عهده وبأمر منه أنشئت “دار الحكمة” في بغداد، وشهدت تلك المكتبة العربية العظمى آنذاك ولادة ترجمات لأهم الكتب في التاريخ في مختلف العلوم، ومن بينها كتاب إقليدس “الأصول والأركان في الهندسة”، وأمر بتزويدها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف الثقافات، وكلف الطبيب السرياني المسيحي يوحنا بن ماسويه الخوزي بالإشراف عليها، وكانت تضم غرفا عديدة تمتد بينها أروقة طويلة، وخُصصت بعضها للكتب، وبعضها للمحاضرات، وبعضها الآخر للنساخين والمترجمين والمجلدين. فتقدمت الفيزياء والرياضيات والصناعة والفلك. وفي بغداد قدم الرشيد دعمه للكيميائي الشهير جابر بن حيان الذي أسس مع تلاميذه منهج التجربة في العلوم.
ولم يكن الرشيد مهتما فقط بإنارة العقول، بل أيضا بإنارة الأمكنة من حولها، ولهذا يرجع المؤرخون إلى عهد الرشيد لحظة إنارة الشوارع والبيوت بالقناديل، فلم يكن هذا معروفا قبل زمنه.
كان الرشيد مشغولا ببناء دولة قوية ليس بجيشها فقط، بل بالتنمية التي تعكسها قوة الدولة، لذلك فقد أمر بتأسيس ديوان “وزارة” للإشراف على بناء الجسور والإنشاءات والعمران. وأسس القاضي الشهير أبويوسف للرشيد، بناء على طلبه، أول نظام سياسي مالي في التاريخ. بكتابه الممتع “كتاب الخراج” الذي كرّسه “مفتيا اقتصاديا” بجدارة. وخاطبه في كتابه ذاك بقوله “وقد كتبت لك ما أمرت وشرحته لك وبينته فتفقهه وتدبّره، وردّد قراءته حتى تحفظه”. وفيه يضع أبويوسف للرشيد ومن سيأتي بعده، قواعد سلوكية دقيقة، مثل أن “يجلس للنظر في مظالم الرعية مجلسا واحدا في الشهر أو في الشهرين، يسمع فيه من المظلوم، وينكر على الظالم؛ حتى ينتهي الولاة عن ظلم رعيتهم. وأن يجيب مطالب المزارعين وأهل الخراج في كل ما فيه مصلحة لهم، كحفر الأنهار. ويلتزم بيت المال بالإنفاق على تلك المشروعات”.
وتحت قيادة الرشيد، تحققت ما يمكن أن تسمى بجدارة نهضة عربية رفيعة، علميا وأدبيا. وكان هو شخصيا أديبا وعالما باللغة والموسيقى والأصوات والألحان، وقد روى عنه الكثير منها في أسانيد علم الموسيقى.
سحر الرشيد
كل ما يعرفه الخيال العربي والعالمي عن مجد بغداد، شهدته بغداد في عصر الرشيد. فقد توسعت عمرانيا بشكل غير مسبوق، وزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة، وهو رقم كبير جدا في ذلك الزمن.
يقول المؤرخون إن القصور تجاورت في بغداد على ضفتي دجلة، آنذاك، حتى باتت المدينة وكأنها مدنٌ متجاورة. وأصبحت المركز التجاري والحضاري الأول في العالم حينها. وباتت مقصدا لطلاب العلم من أصقاع الأرض. ولذلك فقد أمر الرشيد ببناء أول مصنع للورق ببغداد. وبسببه نشأ فيها سوق الوراقين الذي ضم المئات من المحلات التي كانت تبيع الكتب ومنتجات الورق.
بشكل أو بآخر باتت بغداد في زمن الرشيد، عاصمة للعالم، فلم يكن هناك ما يتفوق عليها من بين المدن، لا في القوة العسكرية ولا الاقتصادية ولا العلمية ولا العمرانية.
ولا يجد المرء ما يضطره لمقارنة بغداد اليوم، في زمن ما بعد الاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية، ببغداد الرشيد. فلا يخفى على الأعمى التنكيل الذي تعرضت له عاصمة الرشيد على مختلف الصعد، بحجرها وبشرها ونهرها وهوائها.
تضم مدينة آخن مجد الإمبراطور شارلمان كله، شارلمان الذي سماه العرب “قارله” في تحريف لاسمه الأكثر شهرة “كارل”، والذي ترك سوره وقصره وضريحه ومظاهر قوته مجتمعة في تلك المدينة الألمانية الصغيرة.
شارلمان الذي تمجده كتب التاريخ الغربي، كان شديد الإعجاب بشخصية هارون الرشيد، كانت تستفزه رغبة الملك العربي بالتفوق العلمي، فكاد يصبح انعكاسا أوروبيا لشخصية هارون العربي.
وقد نشأت تلك العلاقة الغريبة بسبب المراسلات والهدايا المتبادلة بينهما، بعد أن نقل الوفود والرحالة أخبار الرجلين عبر البحر المتوسط. ولذلك ترى أن تعليمات الرشيد إلى وزرائه وقد تمت ترجمتها حرفيا في تعليمات شارلمان إلى الأساقفة ورجال الدين المسيحيين الذين فرض عليهم شارلمان تهذيب اللغة من الفظاظة ورفع مستوى الآداب والعلوم. وهو الذي أصدر توجيهاته، ببناء مدارس على غرار “دار الحكمة”، وأمر مديريها بأن “يحرصوا على ألا يفرقوا بين أبناء رقيق الأرض وأبناء الأحرار، حتى يمكنهم أن يأتوا ويجلسوا على المقاعد نفسها ليدرسوا النحو والموسيقى والحساب”.
يقول سكان آخن إن الرشيد أرسل ذات مرة إلى شارلمان هدايا ثمينة من بينها فيل أبيض وآلة عجيبة من النحاس الأصفر بارتفاع 4 أمتار وتتحرك بواسطة قوة مائية، وعند تمام كل ساعة يسقط منها عدد من الكرات المعدنية التي يتبع بعضها البعض الآخر بحسب عدد الساعات وكانت تصدر رنينا ساحرا.
وحين تتم الساعة كان يفتح باب من الأبواب الـ12 المؤدية إلى داخل الساعة، ويخرج منه فارس يدور حول الساعة، ثم يعود إلى المكان الذي خرج منه، وحين تصبح الساعة 12 يخرج 12 فارسا مرة واحدة يدورون دورة كاملة ثم يعودون من حيث أتوا وتغلق الأبواب خلفهم.
رفض أساقفة آخن تلك الآلة السحرية، وقالوا إن الشيطان يسكنها. فحطموها بالفؤوس. فحزن شارلمان حزنا عميقا على ما حل بتلك الآلة وخجل من أن يطلب من هارون الرشيد أن يأمر بإصلاحها بعد أن حطمها جهل رجال الدين في آخن.
صراع الفرس على مستقبل العرب
أول ما يقوله لك سكان مدينة آخن الألمانية، أن أكثر شخصية مشهورة فيها هي شخصية الزعيم العربي “هارون الرشيد”. فما الذي جاء بالرشيد إلى أقصى غرب أوروبا، حيث آخن أو “أكوس غرانا” كما هو اسمها القديم، عاصمة العالم المسيحي القديمة، ليعيش فيها أكثر من ألف سنة
أول ما يقوله لك سكان مدينة آخن الألمانية، أن أكثر شخصية مشهورة فيها هي شخصية الزعيم العربي “هارون الرشيد”. فما الذي جاء بالرشيد إلى أقصى غرب أوروبا، حيث آخن أو “أكوس غرانا” كما هو اسمها القديم، عاصمة العالم المسيحي القديمة، ليعيش فيها أكثر من ألف سنة
البحث في شخصية الرشيد أبعد من البحث التاريخي، ففيه تحتشد الأنثروبولوجيا مع السياسة والاقتصاد وفلسفة العلم والإصلاح الديني. ولذلك لم يتوقف العرب في كل زمن عن دراسته واكتشاف تفاصيل حياته وتفاصيل عصره.
وليس غريبا أن يكون الرشيد التنموي صاحب فكرة إنشاء قناة بحرية ما بين بحر الروم “البحر الأبيض المتوسط”، وبحر القلزم “البحر الأحمر”، وهو المشروع الذي سيرى النور بعد زمن طويل ويعرف باسم “قناة السويس”، إلا أن وزراءه حذروه من الروم ولم يوافقوه على مشروعه.
ليس غريبا، وهو على هذه الدرجة من الأهمية، أن يستهدفه كل من تثيره نهضة العرب، لا سيما الفرس، وهو الذي لم يرحم من تآمر عليه وعلى عرش الدولة العربية منهم، وأنزل بهم ما يعرف في التاريخ باسم “نكبة البرامكة”. فانتقم الفرس من الرشيد بتشويه صورته وتحويله في الأدب والتاريخ إلى ملك المجون واللهو.
ولكن ما يستوقفك حقا هو تناول العرب لشخصية الرشيد في الدراما، فهذه الأخيرة قد أصبحت اليوم “دار الحكمة” العصرية عند الجمهور العربي، وبات ينهل المعارف والعلوم من المسلسلات والأفلام. ولذلك فإن أخطر ما يمكن أن يحصل هو أن تتم مخاطبة عقول العرب من خلال شاشة التلفزيون وفقا لمنهج مسبق مقصود.
لا يحتاج الإنسان لنظرية مؤامرة، ليجيب على سؤال: لماذا يتم إنتاج عمل درامي يكلف عشرات الملايين من الدولارات بلا رسالة؟ السؤال غير واقعي، فخلف كل مشروع من هذا الحجم أسباب أخرى غير التسلية.
وقد سبق وأن قدمت شخصية الرشيد بصورة مستفزة لكل عربي في أعمال درامية عديدة، منها مسلسل “أبناء الرشيد” الذي أنتجته شركة أردنية في العام 2006. حيث ظهر فيه الرشيد منحلا أخلاقيا، وظهر فيه أبناؤه في مشاهد غير لائقة، جمعت الأمين بأحد الصبيان في علاقة شاذة.
إيران لا تريد للعرب أن يتذكروا الرشيد إلا من خلال “ألف ليلة وليلة”، ففي تلك المخيلة، استثمرت فيه إيران لتقدم رسالتها. واستثمر فيه تنظيم داعش الإرهابي، سارقا عاصمته الثانية “الرقة” مصيف الرشيد، ليقدم من خلال أبي بكر البغدادي، خليفة يغرق أتباعه بالمتع والسبي والذهب والعنف، واستثمر فيه العالم الغربي بتقديم نموذج للحاكم العربي الذي من الأفضل له أن يأكل ويشرب ويطرب وحسب
وأظهر المسلسل شقيقة الرشيد “العباسة” عاشقة لجعفر البرمكي، وزعم بأن الرشيد لم يصبر على خلو مجلسه من شقيقته العباسة ومن صديقه جعفر البرمكي فقرر تزويجهما زواجا عرفيا حتى يسمح الشرع لهما بالاجتماع في سهراته، ولكن جعفر والعباسة خانا ثقة الرشيد وأنجبا طفلا قاما بإخفائه في مكة. ولهذا غضب الرشيد على البرامكة وأبادهم على حد ادعاء صانعي المسلسل.
بالطبع هذا كله لم يحدث. ولم يرد في أي مصدر تاريخي موثوق ولا تنطلي على أحد محاولة تصغير مؤامرة البرامكة والحقد الفارسي على الدولة العربية إلى مجرد قصة حب بين أميرة عربية ووزير فارسي.
وهو الأمر الذي يتكرر ما يشبهه في العمل الدرامي الجديد الذي تنتجه شركة سورية هذا العام. حيث يظهر الرشيد مشغوفا بالجواري وقصصهن، تاركا الحكم كله للبرامكة الذين بدا عليهم الحرص على أن تؤول الخلافة لابنه المأمون لأنه فارسي الأم. لكن في الوقت ذاته يظهرون كخبراء في الدولة والحكم والسياسة، قاموا بتربية المأمون الذي يعرفه التاريخ بالخليفة المثقف.
من دون استثناء، يظهر في جميع معالجات الدراما العربية ومنها العمل الجديد، حرص الفرس كقوة وصاية عارفة وذات بعد حضاري بمستقبل من يحكم العرب، ولذلك نراهم في زمنين، يرفضون أن يعتلي العرش حاكم مثل الأمين العربي الأم والأب.
رأيناهم يحاربون كي يصل المأمون إلى سدة الحكم، كما يحاربون اليوم كي تبقى هيمنتهم على العواصم العربية الأربع، كما تباهوا مرارا. دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء. لتكون الرسالة أن من نحارب لتثبيتهم في تلك العواصم لن يكونوا أقل شأنا من المأمون. حتى لو رأيتموهم على صورة الحوثي والحشد الشعبي والأسد ونصرالله وغيرها. فهم مستقبلكم الأفضل.
هارون الرشيد اليوم في ضريحه بمدينة مشهد الإيرانية. ولكن له ألف ضريح في الخيال. والدولة التي رفضت تسليم جثمانه لأهله ليستقر في عاصمته بغداد، لا تريد للعرب أن يتذكروا الرشيد إلا من خلال ألف ليلة وليلة، ففي تلك المخيلة، تم تصوير معنى “الخليفة” الذي استثمر في الغرب والشرق معا، استثمرت فيه إيران لتقدم رسالتها.
واستثمر فيه تنظيم داعش الإرهابي، سارقا عاصمته الثانية “الرقة” مصيف الرشيد، ليقدم من خلال أبي بكر البغدادي، خليفة يغرق أتباعه بالمتع والسبي والذهب والعنف، واستثمر فيه العالم الغربي بتقديم نموذج للحاكم العربي الذي من الأفضل له أن يأكل ويشرب ويطرب دون أن يفكر في تنمية دولته وشعبه.
ولكن يبقى هارون الرشيد أمثولة شاهقة، كلما حاولوا النيل منها تجدد الاهتمام بها من جديد، وكلما حاولوا تجييرها لصالح هذا المشروع السياسي أو ذاك. عاد العرب للتفكير فيها بإنصاف من جديد. لتتجدّد نكبة البرامكة في كل مرة. مرة بيد الرشيد والآلاف من المرات بأيدي الفرس ذاتهم.
العرب