بغداد – يقترب المسار السياسي الذي سلكه رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر من التماهي التامّ مع مواصفات العملية السياسية الجارية في العراق منذ 15 سنة، ومراعاة مقتضياتها والتعامل مع الواقع الذي أفرزته، وذلك بعد أنّ ظلّ زعيم التيار الصدري لسنوات يرفع شعارات رفض ذلك الواقع ويُعلي سقف الطموح لتغييره.
وقطع الائتلاف الانتخابي الذي يرعاه الصدر تحت مسمّى “سائرون” خطوة جديدة نحو تشكيل حكومة عراقية على أسس المحاصصة الحزبية والترضيات السياسية بتحالفه مع ائتلاف النصر بزعامة رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي، بعد أن كان قد بادر قبل ذلك إلى إعلان التحالف مع ائتلاف “الفتح” بزعامة هادي العامري أحد صقور الموالاة لإيران التي تتجه نحو تجديد نفوذها في العراق مستفيدة هذه المرّة من “خدمات” الصدر الذي لطالما رفع لواء معارضته لذلك النفوذ.
وتجرّ الانعطافة الحادّة في المسار السياسي للصدر نقدا لاذعا له من قبل الكثير من العراقيين الذين علّقوا عليه آمال تغيير الوضع السائد بالبلد.
ويقول مراقب عراقي “إذا ما كانت إيران قد نجحت في تمرير قائمة ‘الفتح’ الممثلة للحشد الشعبي انتخابيا بالرغم من أن ذلك يعدّ خرقا للدستور العراقي الذي لا يسمح لحَمَلة السلاح بالترشح للانتخابات، فإن فرض زعماء الحشد الذين أدين عدد منهم بالإرهاب على العملية السياسية باعتبارهم شركاء في تحالف يزعم مؤسسوه تخلّيهم عن النهج الطائفي وسعيهم إلى تأسيس جبهة سياسية عابرة للطوائف، هو بمثابة الفضيحة التي ستكون لها آثار سلبية لافتة على قدرة مقتدى الصدر بالذات على تنفيذ وعوده في التخلص من الهيمنة من النفوذ الإيراني ومحاربة الفساد ومساءلة الفاسدين”.
ويضيف المراقب ذاته “ما فعله الصدر حين ارتضى لقائمته التحالف مع قائمة الفتح الإيرانية هو أشبه بعملية تبييض أموال ذات مصادر مشبوهة. فمن خلال ذلك التحالف صار مقبولا أن يتسلل إرهابيون وقتلة إلى الحياة السياسية وقد يُرشح واحد منهم لمنصب رئيس الوزراء، باعتباره زعيما لكتلة سياسية نالت المرتبة الثانية في سلّم الفائزين”.
و”إذا ما كان حيدر العبادي قد أعفى نفسه من القيام بتلك المهمة غير البريئة -يشرح المراقب العراقي- فإنه عاد والتحق بالركب، خشية أن يُهمّش وهو أمر كان محتمل الحدوث في ظل الحساسية المتصاعدة من إمكانية استمرار حزب الدعوة في الحكم وهو ما تعارضه معظم الكتل الشيعية”.
القبول بزعماء الميليشيات جزءا من التركيبة السياسية وترشيحهم لشغل مناصب قيادية في السلطة أشبه بعملية تبييض أموال
ويستدرك متسائلا “لكن ما معنى أن تتحالف الكتل الفائزة في الانتخابات في ما بينها بعد أن كانت قد توجهت إلى الانتخابات متفرقة”.
ليجيب “أعتقد أن الجواب على ذلك السؤال فيه الكثير من التفسير لمسألة القبول بزعماء الميليشيات جزءا من التركيبة السياسية. فكل البرامج الانتخابية ليست سوى أمنيات، يعرف الجميع أنها تتبخر ما إن تستقر الحال ليعود كل شيء كما كان عليه من قبل. فالصدر اليوم صار يتحدث عن حكومة لا تستثني أحدا، وهو تعبير يُراد من خلاله الإشارة إلى نظام المحاصصة الحزبية”.
ويتخلى زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر، تدريجيا، عن نهجه “الثوري” في ممارسة العمل السياسي مقرا بأنّ “قواعد اللعبة” في هذا البلد، تقتضي قدرا بالغا من المرونة، واستعدادا للعمل مع مختلف أنواع الشركاء، وفتح المجال على قبول جميع الاحتمالات.
ومنذ وصول حيدر العبادي إلى منصب رئيس الوزراء في 2014، صعد الصدر من لهجته المناهضة للنفوذ الإيراني في العراق، وتبنى أتباعه شعار “إيران برا برا” خلال الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإصلاح النظام السياسي.
وأسهم الصدر في صناعة رأي داخلي يدعم خطط العبادي في الانفتاح على المحيط العربي. لكن التطورات التي شهدتها الفترة التي تلت الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، جاءت مغايرة للتوقعات، إذ أعلن الصدر أنه تحالف مع قائمة “الفتح” التي تضم معظم قيادات الحشد الشعبي الموالية لإيران.
وشكل هذا التحول، صدمة سياسية لجمهور الصدر أولا، الذي تنامت لديه مشاعر الغضب ضد إيران، فيما أشاع أجواء سلبية في أوساط المراقبين، وأحبط المتفائلين بشأن خطط الإصلاح التي تبناها كل من الصدر والعبادي.
ويقول قيادي بارز في التيار الصدري لـ”العرب”، إن “خشية الصدر من انفلات الأمور، في حال استمرت القطيعة السياسية بين القوائم الفائزة، وإصرار العبادي على ضرورة حسم اسم المرشح لمنصب رئيس الوزراء قبل الشروع في أي مفاوضات سياسية، دفعا زعيم التيار الصدري إلى التحالف مع الفتح”.
وأضاف القيادي ذاته أن “الصدر بعدما تحالف مع الفتح عاد وفتح ذراعيه للعبادي ليضع القائمة المدعومة من إيران ضمن تحالف واسع لا يمكنها السيطرة عليه أو توجيهه”.
وكانت قائمتا الصدر والعبادي، أعلنتا السبت عن “تحالف عابر للطائفية والإثنية للإسراع بتشكيل الحكومة المقبلة والاتفاق على نقاط ومبادئ مشتركة”، مما تنص عليه “تشكيل حكومة تكنوقراط من الكفاءات بعيدة عن المحاصصة الضيقة، ودعم وتقوية الجيش والشرطة والقوات الأمنية وحصر السلاح بيد الدولة والحفاظ على هيبتها وما تحقق من إنجازات”.
ويقر القيادي في التيار الصدري في حديثه لـ”العرب”، بأن “الصدر وعد العبادي بدعمه لتولي منصب رئيس الوزراء لولاية ثانية، لكنه أبلغه بوجود مرشحين آخرين إلى جانبه”. وتابع أن “تردد العبادي وضعف فريقه السياسي حوّلاه من مرشح وحيد إلى هذا المنصب، إلى مرشح منافس”.
وعقب الإعلان عن تحالف الصدر والعبادي قال المتحدث السياسي باسم زعيم التيار الصدري جعفر الموسوي إن “الاتفاقات السابقة نافذة”، في إشارة إلى التحالفات التي أعلنها الصدر مع إياد علاوي وعمار الحكيم وقائمة الفتح، موضحا أنه “سيتم الإعلان قريبا عن الكتلة الأكبر لتشكيل الحكومة”.
العرب