للوهلة الأولى، لم يسرِ الفوز الكاسح الذي حققه ائتلاف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في انتخابات الرابع والعشرين من حزيران/يونيو على ما يرام في الولايات المتحدة. فرداً على تجدد سيطرته على السلطة التنفيذية والبرلمان، أعرب الكثير من المراقبين عن أسفهم حيال فشل المعارضة ذات الميول الغربية في الحصول على عدد أكبر من الأصوات، وشككوا في احتمال حشو صناديق الاقتراع ببطاقات مزورة، كما أبدوا قلقهم ممّا قد يفعله أردوغان من الصلاحيات الرئاسية الأوسع التي نص عليها الدستور المعدّل. ولكن مع انتقال تركيا من مرحلة الانتخابات المثيرة للجدل خلال الأسابيع المقبلة، قد تنبئ نتائجها بمستقبل أفضل على المدى المتوسط في العلاقة العاصفة بين واشنطن وأنقرة.
إن أهم حسنة بالنسبة لصانعي السياسة في الولايات المتحدة هي احتمال أن تؤدي نتائج التصويت الحاسم إلى تجنب تركيا مواجهة فترة طويلة من الاضطرابات ما بعد الانتخابات – وهذه ميزة لا يجدر الاستهانة بها نظراً للكمّ الهائل من المسائل الثنائية التي لم يتم حلها، والوضع المضطرب التي تعيشه الدول المجاورة لتركيا، والضغوط المتزايدة التي تمارسها روسيا على أنقرة. كما أن السيناريوهات المثيرة على غرار انتخابات الإعادة الرئاسية ومفاوضات الائتلاف البرلمانية كانت ستؤدي على الأرجح إلى تأجيل أي تقدم بشأن مبادرات السياسة الخارجية الجوهرية وزيادة التصنّع السياسي تجاه الولايات المتحدة، مما كان سيزيد من سوء العلاقات الثنائية. وليس هناك شك بأن قيام حكومة تركية مستقرة هو الأساس لوجود شريك أفضل للولايات المتحدة، على الأقل فيما يتعلق بالمصالح الاستراتيجية على المدى القريب في الشرق الأوسط الذي مزقته الحرب.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الثمن السياسي الذي اضطرّ أردوغان إلى دفعه لضمان الفوز قد يجعله أكثر استعداداً للتنازل في بعض القضايا. فـ «حزب العدالة والتنمية» الذي ينتمي إليه كان قد تعرض لتهديدات كبيرة في الفترة التي سبقت يوم الانتخابات، حيث اضطر إلى تشكيل تحالف مع «حزب العمل القومي» لمجرد تأمين الأغلبية، علماً بأن فوزه الرئاسي بنسبة 52 في المائة من الأصوات لم يتفوّق على المستوى الذي حققه عام 2014 سوى بفارق بسيط. وفي الوقت نفسه، فإن أحد ألّد خصومه – وهو «حزب الشعوب الديمقراطي» الذي يعتبره الكثير من الأتراك الجناح السياسي لـ «حزب العمّال الكردستاني» المتمرّد – نجح بسهولة في كسب نسبة العشرة في المائة من أصوات المقترعين الإجمالي المطلوبة لدخول البرلمان. ومن شأن هذه النتيجة المختلطة أن ترغمه على العمل مع المزيد من الجهات الفاعلة داخل تركيا وخارجها، بما فيها الولايات المتحدة – علماً بأن هذه الصيغة “الأكثر اعتدالاً بعد الانتخابات” لم تنطبق عليه دائماً.
ومهما كان مسار أردوغان في أعقاب الانتخابات، فإن واشنطن في وضع جيد يُمكّنها الاستفادة من دولة تركية أكثر استقراراً، بعد أن لعبت أوراقها بشكل جيد مع أنقرة في الآونة الأخيرة. ففي وقت سابق من هذا الشهر، توصّل المسؤولون إلى اتفاق بشأن منطقة منبج في سوريا يشمل تعاون عسكري بين الولايات المتحدة وتركيا وانسحاب الحزب الكردي السوري «حزب الاتحاد الديمقراطي» المرتبط بـ«حزب العمّال الكردستاني». كما أوضح أردوغان أنه يريد بقاء القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا للمساعدة على احتواء مختلف التهديدات المتصورة هناك، بدءاً من «حزب الاتحاد الديمقراطي» وفلول تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى العناصر الإيرانية وحلفائها في نظام الأسد. بالإضافة إلى ذلك، سمحت واشنطن بنقل أول طائرة مقاتلة من طراز “أف-35” إلى تركيا على الرغم من تهديدات الكونغرس الأمريكي بوقف مثل هذه المبيعات بسبب شراء أنقرة لأنظمة الدفاع الجوي الروسية من طراز “أس-400”. وقد جاءت هذه التسويات لتدعم بشكل غير مباشر الفكرة التي كررها أردوغان خلال حملته الانتخابية، وهي أنه الوحيد القادر على حماية أرض الوطن. وفي خضم هذا كله، حافظ الرئيس ترامب على علاقة جيدة معه كما يبدو.
ولا أحد يعلم إلى أين قد يمضي أردوغان بتركيا الآن، وهو شريك صعب تحت أي ظرف من الظروف. ولكن تركيا، من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، هي من أقوى الدول وأكثرها استقراراً في الشرق الأوسط، وشريكٌ تعاونَ مع الغرب في عدة قضايا بدءاً من أفغانستان وأوكرانيا مروراً باللاجئين السوريين ووصولاً إلى دفاعات حلف “الناتو” ضد الصواريخ الإيرانية. ولا يزال معظم الأتراك يميلون إلى الغرب، وقد تصرّفت حكومتهم إلى حد كبير كقوة يفرضها الأمر الواقع تشارك الولايات المتحدة المخاوف نفسها إزاء التوسع الروسي والإيراني. وإذا كانت إدارة ترامب جادة بشأن الأولويات المعلنة في “استراتيجية الأمن القومي” خلال كانون الأول/ديسمبر الماضي – وتحديداً التركيز على المنافسة مع الدول المعادية – فهي بحاجة إلى حلفاء أقوياء مثل تركيا، حتى وإن كان سجلّهم الوطني حافلاً بانتهاكات حقوق الإنسان وقضايا أخرى.
وفي حين تبدو المصادر التركية والوسائل الإعلامية المقرّبة من أردوغان منفتحة على احتمال توطيد العلاقة بين البلدين، من المنطقي أن تتوقع منه واشنطن اتخاذ خطوات جوهرية لمعالجة العديد من المشاكل، وعاجلاً وليس آجلاً. وتشمل هذه الخطوات شراء منظومات “أس-400” – فإلى جانب غضب الكونغرس الأمريكي من إقدام أحد أعضاء “الناتو” على شراء أسلحة من موسكو، من شأن وضع منظومة “أس-400” في أيدي تركيا بدعم تقني من روسيا أن يسمح للكرملين باستنباط معلومات استخبارية حيوية عن طائرات “أف-35” في تركيا، مما يعرّض أساطيل “أف-35” وأنظمتها الداعمة للخطر في دول أخرى. ولا يبدو أن كبار المسؤولين الأتراك يدركون تماماً هذه العواقب ولكن عليهم التحرك سريعاً بالتعاون مع إدارة ترامب للحد من الأضرار التي قد تنجم عن أي عقوبات يفرضها الكونغرس. وفي المقابل يتعين على أنقرة إعادة النظر في إجرائها القانوني الاستفزازي ضد أفراد مثل القسّ الأمريكي أندرو برانسون والموظفين الأتراك في البعثة الدبلوماسية الأمريكية.
وحتى لو اتخذت تركيا هذه الخطوات، فإن سجلها المقلق في مجال حقوق الإنسان، والانحياز الإداري في الحملة الانتخابية لصالح حزب أردوغان، واتهام تركيا بارتكاب مخالفات في الانتخابات ستستمر في تعكير العلاقات الثنائية. وعلى الرغم من أنه لا يبدو أن للرئيس ترامب أي هواجس بشأن التعامل مع زعماء غير ليبراليين، فإن معظم طاقم إدارته والكونغرس الأمريكي والرأي العام وحلفاء الولايات المتحدة يتوقعون من تركيا التصرف كحليف ديمقراطي ليبرالي في حلف “الناتو”، وقد يقررون تحدي التعاون الثنائي إذا لم تتصرف تركيا على هذا الأساس.
إلا أن الانتخابات أوضحت أن أردوغان سيبقى زعيم تركيا في المستقبل المنظور، لذا يجب على واشنطن التواصل معه بشأن القضايا التي تتطلب اتخاذ إجراءات فورية لتجنب حدوث عواقب وخيمة في المنطقة. وبالنظر إلى الاضطرابات التي تشهدها الدول الواقعة جنوب تركيا (من العراق وسوريا إلى اليمن) وشمالها (في القوقاز وأوكرانيا)، فإن واشنطن وأنقرة بحاجة إلى إحداهما الأخرى.
جيمس جفري
معهد واشنطن