في كانون الثاني (يناير)، ومن دون سابق إنذار، رفض دونالد ترامب دفع مبلغ 305 ملايين دولار من أصل التزام بلاده بدفع مبلغ 365 مليون دولار لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، (الأونروا). وبذلك، تعاني الوكالة الآن من نقص تبلغ قيمته 200 مليون دولار من الأموال التي تحتاجها لتوفير الخدمات الإنسانية لخمسة ملايين إنسان، بمن فيهم ثلثا سكان قطاع غزة.
وفي الحقيقة، ليست هذه قصة عن نقص تمويل الأونروا. إنها قصة عن أولئك الناس الذين يسعون بلا كلل إلى القضاء على هذه الوكالة.
كنتُ قد عملت مستشارة لشؤون الأعمال ومستلزمات المعيشة في مكتب مدير الأونروا في غزة في الفترة بين العامين 2013 و2015. كما عملت مديرة للشؤون الاقتصادية في “ميرسي كوربس” في غزة خلال السنتين الماضيتين. وأنا لست مادة طبيعية من مواد الأمم المتحدة، ولذلك كان على المدير، بوب تيرنر، أن يطلب مني ذات مرة عدم الإشارة إلى موظفي الأمم المتحدة المهنيين بعبارة “جماعتكم”. ومع ذلك، فإن الحصار المفروض على غزة يستلزم وجود قناة إنسانية متأسِّسة على غاية، من أجل تأمين الوصول إلى الناس الذين يعيشون خلف الجدار. وقد أظهر الهجوم العنيف الذي شنته إسرائيل على القطاع في العام 2014 (مرة أخرى) كيف أن سكان غزة يظلون عرضة للخطر. وطالما أن معاناتهم تستمر، وطالما يظلون محرومين من حرية التنقل، فإن الأونروا يجب أن تظل موجودة.
في الآونة الأخيرة، أعادت مسيرة العودة الكبرى في غزة إحياء الحجة الزائفة ضد الأونروا: من خلال اعتناقها حقوق الفلسطينيين كما هي مكتوبة في القانون الدولي لحقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة، يقال إن وجود الأونروا نفسه يديم الصراع. ويجعل هذا التصور من جهود إضعاف الأونروا فضيلة.
يعزف يوسي كلين هاليفي هذه النغمة على المفتاح الليبرالي، في كتابه “رسائل إلى جاري الفلسطيني” (انظر الصفحات 132 – 133). ويصرخ بها كل من إينات ويلف وآدي شوارتز بإسهاب في مقالتهما المعنونة، “الكيفية التي تمنع بها الأونروا غزة من الازدهار (6 حزيران (يونيو)، صحيفة هآرتس).
ويكتبان أن “الأونروا نجحت في إخفاء غايتها السياسية المتمثلة في دعم المطلب الفلسطيني بـ”العودة”، والمصمم لإسقاط إسرائيل، وقد فعلت (الوكالة) ذلك تحت غطاء إنساني”. ولأن الأونروا تعرّف الفلسطينيين كلاجئين، فإنها تمنعهم من التكيف مع واقعهم الجديد كغزيين. وبالتالي، فإن الأونروا -وليس الحصار، وليس القصف المتكرر- هي التي تعرقل التنمية في غزة.
وذلك، يريد الكاتبان من إسرائيل أن “تتدخل مع الدول المانحة للأونروا … وتصر على أن تتوقف هذه الدول وتكف عن دعم المطالب الفلسطينية بإبادة إسرائيل من خلال دعمها للأونروا”. وبدلاً من ذلك، يجب على الدول المانحة أن تلتزم بالقائمة التي يضعها الكاتبان من الوصفات السياسة. وعنذئذٍ، سوف تتفتح غزة وتزهر خلف أسوارها.
بطبيعة الحال، كانت القوانين الدولية الخاصة بالاحتلال وحقوق الإنسان والسياسة غائبة تماما عن وصفاتهما. وعلى الرغم من أن إسرائيل نفسها تأسست على أساس حق العودة، وتتفاخر بامتلاك “قانون عودة” أخلاقي، فإن هذين الكاتبين يجادلان بحماس بأنه، بالنسبة للفلسطينيين، “ليس هناك “حق” في “عودة”، ولن يكون هناك مثل هذا الحق أبداً”.
بعد أن تم التخلص من كل ما يتعلق بالقانون والعدالة والمقاومة الفلسطينية، أصبحت الأونروا الآن هي كل ما يقف أمام فرض حل أحادي الجانب للصراع. لو أنهم يستطيعون التخلص من الأونروا فقط…!
مع ذلك، لا ينبغي أن يفوت المرء الغايات؛ إن الأونروا ليست سوى الهدف الظاهر لهذه الحجة. أما هدفها الحقيقي فهو إضفاء الشرعية على الوضع الراهن والقضاء على قضية اللاجئين بالكامل. وعن طريق إزالة الأونروا، يأمل هؤلاء الكُتّاب في أن يتخذ التوزيع الحالي للسلطة والأرض صفة الديمومة.
لكن الأونروا تقوم بعرقلة مثل هذا التغيير التدريجي، لأن الأرض المعنية محتلة، وقد تم تكليف الأونروا بتوفير الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. وبذلك، تكون الأونروا هي الدليل المؤسسي المتعب وغير المريح على -وليس السبب- في استمرار الاحتلال.
لتصحيح المفاهيم الخاطئة التي تميل إلى مرافقة هذه الحجة، ينبغي ملاحظة الآتي:
• سوف يفيد الرجوع إلى الأدبيات عن إنشاء الأونروا وولايتها وتعريف مجتمع اللاجئين الخاص بها بموجب قرارات الأمم المتحدة.
• تقوم الجمعية العامة للأمم المتحدة بتجديد ولاية الأونروا كل ثلاث سنوات. وفي الآونة الأخيرة، صوّتت 167 دولة عضواً لصالح مواصلة تفويض الوكالة حتى 30 حزيران (يونيو) 2020؛ وبذلك، توافق غالبية كبيرة من دول العالم على الحاجة إلى وجود الأونروا.
• إن حق العودة الفلسطيني مكرس في قرار الأمم المتحدة رقم 194. وهو ليس من ابتكار الأونروا؛ وبدلاً من ذلك، فإن الأونروا تلتزم فقط بقرارات الأمم المتحدة.
• تقوم الأونروا بتقديم احتياجات اللاجئين للجهات المانحة، ولكنها ليست الممثل السياسي للاجئين. وليست الأونروا طرفاً في الصراع، ولا مشاركاً في أي عملية سلام. ولا تملك الأونروا أي سلطة لمقاومة أو منع أو الموافقة على أي حلول للصراع.
على الرغم من أنها ليست طرفاً في التفاوض، فإن الأونروا موجودة فعلاً في مجال مسيّس. فبينما تخدم الأونروا وتتحث نيابة عن لاجئي فلسطين كمجتمع واحد، فإنها تذكّر العالم بأن الفلسطينيين هم شعب واحد، ما يزال في انتظار حل. وطالما أن الأونروا تعطي صوتاً مؤسسياً للاحتياجات الناشئة عن هذه المطالبة الوطنية، فإن بعض الناس سيتخيلون أن بالوسع إخماد هذه المطالبة نفسها من خلال جعل الأونروا تختفي.
يتم تمويل الأونروا بشكل أساسي من خلال التبرعات، وليس من خلال مستحقات واجبة على الأمم المتحدة. وفي حين أن الأونروا بالكاد سلبية، فإنها تظل مع ذلك أداة للجهات المانحة. ومن أجل فهم حياة الأونروا الطويلة، يجب على المرء أن يتساءل عن السبب في احتفاظ الدول بالوكالة والاستمرار في تمويلها.
في واقع الأمر، يشكل هذا الواقع تناقضاً صارخاً في عمل المانحين. كنتُ قد وصلت إلى غزة بعد خمس سنوات قضيتها في أفغانستان وباكستان. وفي أفغانستان، فرضت الدول المانحة إصلاحاً نيوليبراليا، في حين احتفظت نفس الدول في غزة بأكثر وكالات الأمم المتحدة قِدَماً وأطولها عمراً. وفي حين طلبت هذه الدول من الأفغان الجياع أن يعملوا من أجل الحصول على مساعدات غذائية مؤقتة، فإنها طلبت من عمال غزة المتلهفين أن يصطفوا لأجيال لتلقي الإغاثة الغذائية السلبية. وفي حين أنها هدمت كل جدار آخر باعتباره حاجزاً أمام التجارة والتبادل، فإنها تتحمل دفع تكاليف بناء الجدران حول غزة.
لا شك في أن هذا الاتجاه متعمد. والأونروا هي أحد النتائج الثانوية لرفض الدول إضفاء الشرعية على الترتيبات الحالية للسلطة الإسرائيلية واستبعاد الفلسطينيين. إنها تقوم بحجب تطبيع هذا الواقع، وتقوم بدلاً من ذلك بتمويل الأونروا لتعمل كنائبٍ مؤسسي عنيد.
وهنا يمكن جوهر حجة ويلف وشوارتز: إنهما يسعيان إلى تطبيع الوضع الراهن. ويحتجّان هما وآخرون على أن إسرائيل تتعرض لتمحيص نقدي لا مبرر له، عندما يكون كل ما تريده هو أن تكون لها حياة وطنية طبيعية. ومع ذلك، يطالب هؤلاء بعدم معاملة إسرائيل بشكل طبيعي. إنهم يريدون منح رخصة استثنائية لتمتع إسرائيل بسلطة عرقية، وسيطرتها على حياة الفلسطينيين والحط من قيمتها.
لم تقم الدول المانحة بتطبيع الوضع الراهن، لأنه وضع غير طبيعي. ووضع وكالة الأونروا شاذ لأن الاحتلال هو أمر شاذ غير محلول بعد. وهو أكثر لاطبيعية وعنفاً وتدميراً في غزة بالتحديد. ويريد هؤلاء الكُتاب إزالة الأونروا من أجل إخفاء أزمة غزة، وليس حلها.
أزمة – أي أزمة؟ “إذا كانت الأمم المتحدة قادرة على التصرف الفوري وإرسال عمليات الإنقاذ إلى مناطق الكوارث في جميع أنحاء العالم… من دون أن تصنف (الأشخاص المتضررين) هناك بالضرورة كلاجئين، فإنها قادرة على القيام بذلك أيضاً في غزة”، كما يقول الكاتبان.
إن غزة لا تعاني من كارثة طبيعية. إنها تعاني من حصار مطول، واعتداءات عسكرية متكررة، وانهيار اقتصادي وبيئي. إنها مكان لتضحية متصاعدة من صنع الإنسان. وسوف يشكل تصوير هذا الأمر كمسألة إدارية من الإنقاذ الفوري الروتيني، فإن ذلك -وهذا ألطف شيء يمكنني كتابته- شأن مضلل بطريقة قاتلة.
لقد عملت كعضو في فريق الاستجابة للطوارئ التابع للأونروا خلال حرب العام 2014. وكانت هناك حاجة ماسة إلى كل جزء من البنية التحتية المادية للأونروا والآلاف من موظفيها، لإيواء ربع مليون من الذين شردهم الصراع، والحفاظ على الخدمات العاجلة، ولإخراج الطعام والإمدادات من خلال عنق زجاجة الحصار، وتوزيعها في أنحاء القطاع. وبذلك، تشكل الأونروا الخط الأمامي لحماية المدنيين في غزة. وإذا تم تفكيك الأونروا، فأين سيذهب هؤلاء الناس لطلب الأمان؟
لا يوجد إنقاذ فوري من مطر المتفجرات الذي يهطل على مدينة محاصرة. وما تزال غزة بحاجة إلى المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين وحقوق الإنسان والتنمية. إنها بحاجة إلى العدالة والسلام، وإلى استمرار وجود الأونروا في هذه الأثناء.