تتجه الأنظار نحو الجنوب السوري، وتسارع العمليات العسكرية في درعا، على ضوء ما جرى تداوله بشأن رغبةٍ أميركيةٍ في تعديل الاتفاق الثلاثي، الأميركي الروسي الأردني، حول جنوب سورية، وكذلك في إطار موافقةٍ إسرائيلية على وجود قوات النظام على الحدود، مقابل إبعاد إيران ومليشياتها، مع استمرار النظام بعمليته العسكرية هناك. وفي هذه الظروف، جاء الإعلان عن اللقاء المرتقب في هلسنكي في 16 يوليو/ تموز الحالي، بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي دونالد ترامب، وستكون سورية إحدى أبرز ملفاته، بدون أدنى شك، إلا أنها لن تكون الوحيدة أو المحورية.
يعتزم الرئيسان، بوتين وترامب، مناقشة آفاق تطوير العلاقات الثنائية، والقضايا الدولية، وسيكون هذا أول اجتماع كامل لهما، من دون الربط بمؤتمرات وقمم دولية، فقبل عام التقيا أول مرة في هامبورغ، في أروقة قمة مجموعة العشرين، وبعد ذلك بأشهر تم التواصل بينهما فترة وجيزة في فيتنام خلال قمة أبيك.
وهنا يمكن الإحالة إلى الدور التاريخي لفنلندا، والأسباب التي أدت إلى اختيارها مكاناً لاجتماع بوتين – ترامب، فقد كان أول اجتماع “فنلندي” في عام 1975 هو مفاوضات الرئيس
الأميركي، جيرالد فورد، مع الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، ليونيد بريجنيف، وكانت النتيجة اتفاقية هلسنكي، وهي وثيقة وقعها رؤساء 35 دولة، معلنة تحسن العلاقات بين الدول الشيوعية والدول الرأسمالية آنذاك. وفي وقت لاحق، عند الحديث عن هذه الاتفاقية، فإنها تعني “انفراجا” خلال الحرب الباردة.
وفي عام 1990، قبل انهيار الاتحاد السوفييتي بأشهر، ناقش الرئيس الأميركي، جورج بوش (الأب)، والرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، في هلسنكي كذلك، أزمة الخليج العربي. وفي عام 1997، في المقر الرسمي للرئيس الفنلندي، أجرى الرئيسان، الأميركي بيل كلينتون والروسي بوريس يلتسين، محادثات مفصلة. واليوم، يأمل البيت الأبيض والكرملين أن يؤدي الاجتماع المرتقب إلى تحسّن في العلاقات الروسية الأميركية.
وقد يكون هناك سبب آخر، هو أن فنلندا “أرض محايدة”، لأنها ليست جزءاً من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولكن عضويتها في الاتحاد الأوروبي تربطها بالغرب، كما أنها تتمتع بعلاقات جيدة مع كل من واشنطن وموسكو. وستكون قمة فنلندا التاريخية فرصة “لفتة رمزية”، يمكن أن تكون مهمةً في مستقبل العلاقات الدولية، فالرئيس الأميركي سيغادر قمة “الناتو” المقررة قبل منتصف شهر يوليو/ تموز الجاري، للاجتماع مع بوتين. وهذا تذكير لانتقاده أخيرا قادة حلف شمال الأطلسي. ولم ينس العالم رسالة ترامب الشهيرة إلى قادة “الناتو” بوجوب زيادة إنفاقهم العسكري. ويمكن أن يعتبر الاجتماع في دولة محايدة رسالة ضغط على زعماء دول الحلف، لكي يزيدوا من إنفاقهم الدفاعي، الأمر الذي سيخفف بدوره العبء المالي على الولايات المتحدة، وهو ما يبحث عنه ترامب.
استفادت روسيا استفادةً كبرى من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخُّل في صراعاتٍ مختلفة في الشرق الأوسط، وغياب دور واضح لها في أزماتٍ كثيرة، وخصوصاً سورية، لتُعيد بناء علاقاتها مع عواصم مختلفة في المنطقة، لا سيما الخليجية منها. وقد عملت روسيا، بتدخلها العسكري في سورية، على تحقيق أهداف جيو – استراتيجية، ونجحت، إلى حد كبير فيها، على الرغم من فشلها في تحقيق بعض تلك الأهداف. وعلى الرغم من التدخل العسكري الروسي
القوي في سورية لأكثر من عامين، إلا أن موسكو ما زالت تفتقر إلى تفعيل دور سياسي قوي يناسب حجم تدخلها العسكري. ومن هذه الزاوية، تعاونت موسكو سياسياً وعسكرياً مع دول إقليمية في المنطقة، بهدف دعم موقفها السياسي الضعيف، باعتبار أن شقاً ليس قليلا من الشعب السوري يعتبرها دولةً محتلة، ولذلك رأينا كيف تعاونت مع الرياض، وأثنت على جهودها في تشكيل وفدٍ موحدٍ للمعارضة، يضم جميع المنصات، وشارك في الجولة الثامنة لمحادثات جنيف، وكذلك عبر محادثات أستانة التي نظمتها موسكو بالتعاون مع تركيا بداية، ثم تم ضم إيران طرفا ضامنا بعد جولتها الثالثة (لما تملكه طهران من قوات على الأرض السورية، وحتى لا تضع العصي في عجلات أي اتفاق روسي – تركي). واستطاعت الدول الثلاث تهدئة الوضع في سورية، إلى حد ما، إضافة إلى إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد.
أوجد التدخل العسكري الروسي في سورية نوعاً من التوازن العسكري في ميزان القوى بين جميع الأطراف، بحيث لا يسمح لأيٍّ منها بتحقيق أي انتصارٍ يمكن أن يقلب المعادلة على الأرض السورية، واستطاعت روسيا إعادة مناطق كثيرة في سورية إلى يد النظام، باستثناء بعض المناطق في شمال شرقي البلاد.
يبقى القول إن الأنظار ستتجه إلى قمة هلسنكي التي ستجمع بوتين مع ترامب، وما سيكون بعدها من تغيراتٍ، ستظهر ملامحها على الأرض السورية، ربما قبل منتصف شهر يوليو/ تموز الحالي، مع الأخذ بالاعتبار تسارع الأحداث، وقد تكون بدايةً لحقبة جديدة في خريطة المنطقة والعالم، على الأقل من الناحية السياسية، بالنظر إلى قمم فنلندا وما تلاها تاريخياً.
باسل حاج جاسم
العربي الجديد