ساسة العراق يعيدون التمترس في خنادقهم الطائفية والقومية

ساسة العراق يعيدون التمترس في خنادقهم الطائفية والقومية

بغداد – توشك الأطراف السياسية العراقية، على التخلي عن جميع شعارات الإصلاح وإلغاء المحاصصة، التي سبق أن رفعتها قبل الانتخابات التشريعية العامة التي جرت في مايو الماضي، وأسفرت عن نتائج متقاربة لعدد من القوائم.

وكانت أغلب القوائم المرشحة آنذاك للانتخابات قد أقامت حملاتها الانتخابية، على شعارات الإصلاح والوطنية والتخلص من المحاصصة الطائفية والقومية في توزيع المواقع والمناصب الوزارية والإدارية، والاعتماد على الكفاءات بدلا عن ذلك، لعلمها بامتعاض الشارع العراقي من الأسس التي قامت عليها العملية السياسية، وأفضت بالبلد إلى ما هو عليه اليوم من أوضاع بالغة السوء.

وترتقي المحاصصة في العراق إلى مرتبة المبدأ المثبت بالدستور الذي أشرفت الولايات المتحدة على كتابته وحرصت من خلاله على جعل البلد دولة مكونات لا تجمع بينها سوى المصالح، الأمر الذي فسرته الأحزاب الحاكمة عمليا من خلال قيامها بتقاسم ثروات العراق باعتبارها غنائم.

وكذلك حرصت تلك الأحزاب على ترسيخ ذلك النظام من خلال إقحام البعد الطائفي في كل شأن من شؤون الدولة والمجتمع، بحيث تكون المرجعية الطائفية هي الأساس الذي تنطلق منه التفاهمات، ما يعني بالضرورة تغييب المرجعية الوطنية واستبعاد كل من ينادي بها من العملية السياسية.

وهكذا حلت دولة المكونات محل الشعب الواحد وحلت الطائفة والعرق محل الوطن الواحد. فكان ذلك التحول ستارا يحجب عمليات الفساد المحكمة التي مورست ولا تزال تُمارس في ظل ضياع الصوت الوطني وغياب المشروع الجامع.

ولأن الفساد ارتبط بنظام المحاصصة فقد ارتبطت الدعوة لمحاربته بالدعوة إلى عودة الدولة الوطنية وهما دعوتان لاقتا إقبالا من قبل الطبقات المحرومة مما أسفر عن تغيير لافت في المعادلات السياسية. غير أن ذلك التغيير لم يكن كفيلا بقلب طاولة نظام المحاصصة التي صُنعت بطريقة محكمة وبرعاية أميركية- إيرانية لا تزال قائمة.

لذلك لن يتمكن طرف سياسي بمفرده من تحقيق اختراق جذري لما أجمعت عليه الأحزاب المدعومة أميركيا وإيرانيا واتخذته وسيلة لاستمرار في حلب ثروة العراق متذرعة بشرعية تمثيلها للمكونات التي تم توزيعها حصصا بين الأحزاب داخل الطائفة أو العرق الواحد. فالشيعة ليسوا مكونا موحدا وكذلك السنة والأكراد.

وكشفت طبيعة الحوارات التي جرت بين الكتل السياسية عقب إعلان نتائج الانتخابات أن شعارات تجاوز الطائفية والمحاصصة كانت معدّة للاستهلاك الانتخابي فحسب.

وأظهرت نتائج الانتخابات فوز قائمة “سائرون” التي يرعاها رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بالمركز الأول محققة 54 مقعدا من أصل مقاعد البرلمان البالغة 329، تليها قائمة “الفتح” المدعومة من إيران بزعامة هادي العامري التي حققت 47 مقعدا، ثم “النصر” بزعامة رئيس الوزراء حيدر العبادي وحازت 42 مقعدا.

ترتبط عودة الساسة العراقيين إلى التخندق الطائفي باقتراب موعد الشروع في إجراءات تشكيل الحكومة الجديدة

ورغم توقّعات عديدة ذهبت إلى استبعاد إمكانية اجتماع الفائزين الثلاثة على أي طاولة مفاوضات، إلاّ أن اللقاءات بينهم لم تتأخر، وسرعان ما أعلن عن تفاهم بين الصدر والعامري، ثم الصدر والعبادي.

وبحكم الواقع، فإن القوى الشيعية الثلاث الكبرى قررت أن تأتلف معا، لتضمن سيطرتها على الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان الجديد التي سيكون لها حق ترشيح رئيس الوزراء القادم.

ولم يقف الصدر عند هذا الحد، بل أدخل في تفاهماته طرفا شيعيا رابعا هو عمّار الحكيم زعيم تيار الحكمة، لتكون كتلته جامعة لأربع من أصل خمس قوى شيعية كبيرة فازت في الانتخابات.

ولم يبق خارج دائرة التفاهم الشيعي سوى ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي يرجّح أنّ خلافاته الشخصية الحادّة مع الصدر وليست الخلافات السياسية بينهما، هي ما يمنع التحاقه بالتجمّع الرباعي الشيعي.

ولم يتأخر أكراد العراق كثيرا إذ سرعان ما عمد الحزبان الرئيسيان في إقليم كردستان، الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني والاتحاد الوطني الذي أسسه وترأسه لسنوات الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني، إلى تنحية خلافاتهما الداخلية، وتشكيل وفد يمثلهما معا في بغداد، فيما التحقت أطراف سياسية كردية أخرى، سريعا، بهذا التفاهم.

لكن القوى السنية تردّدت بضعة أيام، وخاضت بشكل منفرد حوارات منفصلة مع الأطراف الشيعية والكردية قبل أن تقرر العودة إلى النهج المتعارف في السياسة العراقية، وهو التكتلات الطائفية والقومية.

وذهب جل زعماء القوائم السنية الفائزة إلى إسطنبول التركية، وأجروا سلسلة مباحثات ولقاءات أسفرت عن تشكيل تكتل خاص تحت مسمى “المحور الوطني” لخوض مفاوضات موحدة مع الشيعة والأكراد بشأن حصة المكون السني في الحكومة القادمة.

وعمليا، عادت إلى الساحة السياسية العراقية في 2018 ثلاثة تجمعات كبيرة، الأول للشيعة، والثاني للسنة، والثالث للأكراد، وهي الصيغة المعتمدة في البلاد منذ إجراء أول انتخابات في عام 2005.

وباستثناء الأكراد الذين يجاهرون بضرورة توحيد مواقف قواهم السياسية حول مطالب محددة، قبل التوجّه إلى بغداد، يواصل الزعماء الشيعة والسنّة الغارقون في مفاوضات سرية تهدف إلى “توحيد المكون” نفي إمكانية انخراطهم في أي “مشروع طائفي”، وهو تناقض يثير سخرية المراقبين.

العرب