اختارت إسرائيل بدعم واضح وصريح من الإدارة الأمريكية، أن تفتج ثلاث معارك جديدة مع الفلسطينيين، بعضها سياسي وآخر له علاقة بفرض الإملاءات على الأرض، ضمن مخططات توسيع الاستيطان، الرامية لإقرار مخطط «صفقة القرن» بشكل عملي. فأصدر الكنيست الإسرائيلي قرارا باستقطاع جزء من أموال الضرائب الفلسطينية، كعقاب على دفع مخصصات أسر الشهداء والجرحى، ليتلوا ذلك قيام رئيس الحكومة بمكافأة أعضاء الكنيست المتطرفين، بالسماح لهم باقتحام باحات المسجد الأقصى، ولينتهي المطاف ببدء حكومة تل أبيب بإجراءات إزالة وهدم تجمع «الخان الأحمر» شرق مدينة القدس المحتلة، وطرد سكانه الفلسطينيين.
بداية المعارك التي اختارت إسرائيل توقيتها بدقة، مستندة بذلك إلى الدعم الأمريكي الواضح، وإلى الموقف الدولي والعربي الضعيف، كان الأسبوع الماضي، حين أقر الكنيست الإسرائيلي قانونا وصفه الفلسطينيون بـ «القرصنة»، وتمثل بقطع جزء من قيمة الضرائب التي تجنى في الموانئ الإسرائيلية من البضائع التي تمر للمناطق الفلسطينية.
وهذه البضائع بموجب اتفاق «باريس الاقتصادي» تجبي منها إسرائيل قيمة الضرائب، ومن ثم تحولها بعد استقطاع نسبة معينة زهاء ذلك لخزينة السلطة، وقد تذرعت إسرائيل بأن قرارها جاء بسبب دفع هذه الأموال للنشطاء الأسرى، ولعوائل الشهداء والجرحى الذين سقطوا خلال مهاجمتهم أهدافا إسرائيلية، حيث من المتوقع أن تصل قيمة الخصومات التي ستحول لصندوق إسرائيلي خاص، 7 في المئة من ميزانية السلطة، والمقدرة هذه النسبة بـ 300 مليون دولار سنوي.
واستندت إسرائيل بذلك لموقف الإدارة الأمريكية السابق، بوقف المساعدات المقدمة للفلسطينيين، بسبب قيامهم بدفع جزء من الموازنة لعوائل الأسرى والشهداء.
الفلسطينيون على كافة المستويات الرسمية والشعبية والتنظيمية، رفضوا هذا القانون الإسرائيلي الجائر، وفي معركة فرض الإرادات، أعلنت القيادة الفلسطينية استمرارها في دفع هذه المخصصات للعوائل مهما كلف ذلك من ثمن.
وعلى الفور أعلنت الرئاسة الفلسطينية على لسان نبيل أبو ردينة، تنديد القيادة الفلسطينية بالمحاولات الإسرائيلية الرامية لـ «تجريم النضال الفلسطيني» بعدما صادق الكنيست الإسرائيلي، بالقراءتين الثانية والثالثة، على مشروع قانون ينص على خصم قيمة مخصصات ذوي الشهداء والأسرى والجرحى، من عوائد الضرائب. وقالت إن القرار يمثل «إعلان حرب» وإنه يفتح كل الخيارات لمواجهة الاحتلال.
وأعلن الناطق الرسمي باسم الرئاسة نبيل أبو ردينة، رفض القرار بشكل قاطع، ووصفه بـ «الخطير»، كونه يمس «أسس العلاقة منذ اتفاق اوسلو»، وتوعد باتخاذ القيادة الفلسطينية «قرارات هامة»، لمواجهة قرار الكنيست يعمل على «تجريم النضال».
وقد ترافق ذلك مع تأكيد وزارة المالية الفلسطينية استمرارها في دفع مخصصات أسر الأسرى والشهداء والجرحى، باعتبارهم «ضحايا إرهاب الاحتلال».
ولم تمض 24 ساعة على إصدار القانون الذي حظي بتأييد كبير من الأحزاب اليمينية المتطرفة، حتى سارع رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى إصدار أمر، يقضي بموافقته لهؤلاء الأعضاء، بالمشاركة في اقتحام باحات المسجد الأقصى، مع جموع المستوطنين المتطرفين، بعد عملية منع دامت عامين.
وقوبل قرار نتنياهو بتحذير فلسطيني من استمرار التصعيد، ضد المسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس المحتلة، وأكدت الحكومة الفلسطينية على لسان الناطق باسمها يوسف المحمود، أن هذه الخطوة ما كان يجرؤ نتنياهو على اتخاذها، لولا الانحياز الأمريكي لسياسات الاحتلال وإجراءاته التعسفية التي يقودها الرئيس دونالد ترامب، وأكد أن هذا القرار يساهم في دفع المنطقة برمتها الى «أتون صراع ديني».
فيما اعتبر قاضي قضاة فلسطين، محمود الهباش، في تعقيبه على قرار نتنياهو، بأنه «يرتكب جريمة حرب متكاملة الأركان بحق المقدسات الإسلامية»، وأن القرار يخالف القوانين الدولية، وسط دعوات فلسطينية لـ «شد الرحال» للمسجد الأقصى لحمايته من هذه الهجمات المتوقع أن يشارك فيها قريبا نواب الكنيست من المتطرفين.
ولم يطل موعد إعلان نتنياهو عن المعركة الثانية، حتى أعطى إشارة بدء المعركة الثالثة، وهي الأخطر المتمثلة بعملية هدم تجمع «الخان الأحمر» البدوي الواقع شرق مدينة القدس، والذي يأتي في سياق مخطط استيطاني كبير تم وضعه قبل عدة سنوات يعرف باسم «E1» ويستهدف 46 تجمعا بدويا في الضفة المحتلة والقدس، من أجل تقطيع أواصر الضفة وفصل شمالها عن جنوبها، وعزل مدينة القدس عن المناطق الفلسطينية، وتوسيع المستوطنات وضمها بالكامل لإسرائيل بعد استقطاع أراضيها عنوة من الدولة الفلسطينية المنشودة.
ودفعت سلطات الاحتلال بقوات معززة بالجرافات وآليات الهدم إلى تلك المنطقة التي تأوي نحو 200 مواطن، بينهم أطفال يتلقون وغيرها من التجمعات البدوية القريبة التعليم في مدرسة الخان، المهددة هي الأخرى بالهدم، من خلال شق طريق من الشارع الرئيسي لتلك المنطقة بهدف تسهيل سير المركبات التي سيوكل لها في مرحلة لاحقة نقل أهالي التجمع عنوة، وإدخال معدات الهدم لإزالة التجمع بالكامل.
ومن المتوقع أن تشرع سلطات الاحتلال بعملية الهدم بعد انتهاء يوم 11 من الشهر الجاري، أي بانتهاء قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بتأجيل أمر الهدم لهذا التاريخ، لمعرفة عدم ترخيص المكان من قبل منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية، والذي رفض الموافقة على مخططات فلسطينية قدمت له، لترخيص الحي، بما يشير إلى وجود مخطط احتلالي سابق بهدم المنطقة، التي ستستغل في مشاريع الاستيطان الكبيرة.
الفلسطينيون في هذه المعركة المصيرية مع الاحتلال، أعلنوا على اختلاف مشاربهم السياسية، رفضهم لهذه المخططات، ودعوا لمواجهتها بكل الوسائل، في ظل خشيتهم من أن يفتح تنفيذ هذا المخطط الاستيطاني، شهية سلطات الاحتلال لمزيد من عمليات الهدم.
وبشكل عملي يهدف إلى منع عملية الهدم، يواصل عشرات المتضامنين الأجانب ونشطاء المقاومة الشعبية الفلسطينية، الاعتصام في تلك المنطقة منذ عدة أيام، وقاموا بعمل «سلسلة بشرية» أمام الجرافات الإسرائيلية، لمنعها من القيام بعملية الهدم، وقد نجحوا بذلك حتى اللحظة، رغم إعلان سلطات الاحتلال المكان «منطقة عسكرية مغلقة»، واعتدائها بالضرب على المتضامنين، ما أدى إلى سقوط عشرات الإصابات بينهم وزير القدس عدنان الحسيني، واعتقال ثلاثة متضامنين أجانب.
وفي إطار المشاركات الجماهيرية، أقيمت صلاة ظهر الجمعة على أرض التجمع البدوي، بمشاركة مفتي القدس والديار الفلسطينية الشيخ محمد حسين، الذي أكد على واجب الدفاع عن القدس، وطالب العرب والمسلمين بـ «نفض غبار الذل والهزيمة عنها».
وقد ندد الرئيس الفلسطيني محمود عباس باعتداء قوات الاحتلال الإسرائيلي، على المواطنين الفلسطينيين في الخان الأحمر وترحيلهم من أرضهم بالقوة، لافتا إلى أن ذلك يؤكد ضرورة قيام الأمم المتحدة بواجبها تجاه الشعب الفلسطيني وتوفير الحماية الدولية له، فيما ربط الوزير الحسيني المشارك في الاعتصامات ضد عملية الهدم، تنفيذ المخطط، بالمساعي الرامية لتمرير «صفقة القرن» الأمريكية، داعيا الفلسطينيين لتحضير أنفسهم لـ «مواجهة قد تطول».
وفي سياق معركة التحدي لقرارات الهدم الإسرائيلية، تعالت أصوات الفصائل المطالبة بـ «تصعيد الانتفاضة» ضد الاحتلال، واستمرار عمليات «النفير» والتوجه لحماية منطقة الخان الأحمر.
فقد أكدت حركة فتح أن ما يحري يمثل «وصمة عار في جبين المجتمع الدولي الصامت على هذه الجرائم الإسرائيلية بحق الأطفال والنساء والشيوخ العزل»، فيما قالت حركة حماس أن ما يجري من اضطهاد وتهجير وتنكيل بالنساء والرجال «كفيل وحده بإشعال انتفاضة عارمة في كل مدن وقرى وشوارع فلسطين دون استثناء، وبلا أي حسابات».
وطالبت حركة الجهاد الإسلامي بـ «تصعيد المواجهة» مع الاحتلال الإسرائيلي ووضع حد لـ «الجرائم الاستعمارية» في تجمع الخان الأحمر، فيما أكدت لجان المقاومة الشعبية على أن مواجهة هذا العدوان، تكون من خلال تصعيد الانتفاضة ضد الاحتلال. ويتوقع أن تساهم هذه المعارك التي فتحتها إسرائيل في إطار انتهاجها سياسة فرض الإملاءات على الأرض، في توسيع نشاطات أعمال المقاومة الفلسطينية على اختلاف أشكالها، لا سيما الشعبية منها في الضفة الغربية، وهو ما سيرفع من قيمة فاتورة الانتهاكات ضد الفلسطينيين، الذين لن تكسرهم سياسة «عض الأصابع» لعدم وجود شيء كبير يخشون خسارته على عكس إسرائيل وحكومة اليمين.
أشرف الهور
القدس العربي