بعد ثلاث حروب عربية-إسرائيلية، وعشرات الآلاف من القتلى الفلسطينيين وملايين اللاجئين، هل يعتقد كوشنر حقاً أن الفلسطينيين سيقبلون بالنقود؟ كيف يمكنه أن يهين شعباً عربياً كاملاً باقتراح أن حريتهم، وسيادتهم، واستقلالهم، وكرامتهم، والعدالة والوطنية هي مجرد “أمور يتحدث عنها السياسيون”؟ أما مِن نهاية لهذا الجنون؟
* * *
ألم تتبق إهانة لم يتم توجيهها إلى الفلسطينيين؟ بعد أوسلو، وبعد “حل الدولتين”، وبعد سنوات من الاحتلال الإسرائيلي -للمنطقة (أ) والمنطقة (ج) لتعريف أي نوع من الاحتلال هو الذي يجب أن تعيش تحته فلسطين- وبعد الاستعمار اليهودي الهائل للأرض المسروقة من أصحابها العرب، وبعد القتل الجماعي المتكرر في غزة، وقرار ترامب أن القدس -كل القدس- يجب أن تكون عاصمة إسرائيل، هل سيُطلَب من الفلسطينيين أن يقنعوا بالمال وبقرية بائسة؟ ألم يتبق أي شعور بالخجل؟
لأن الفلسطينيين سوف يُمنحون قريباً “الصفقة النهائية” -“النهائية”، كما في “صفقة” نهاية اللعبة الأخيرة، النهائية، القاطعة، الشاملة، حيث لا مزيد من أوراق اللعب، ولا نقود لتدعم أوراقك، وحيث تقامر بكل شيء، وعليك أن تأخذ كل شيء أو تترك كل شيء، حيث لك أن تذهب إلى الجحيم، وما لكَ سوى أن تخضع للأمر وتكف عن فعل أي شيء. ثمة قرية بائسة هي التي ستكون عاصمتك، وليس ثمة نهاية للاحتلال، ولا أمن، ولا جيش ولا حدود مستقلة، ولا وحدة -في مقابل قدر كبير من النقود؛ ملايين الدولارات واليوروهات؛ ملايين الجنيهات، والزليونات والدنانير والشواقل والسيولة والكسب القذر؛ الملايين من النقود الحقيقية.
كان مما قاله ولي العهد، كوشنر، مؤخراً: “أنا أعتقد أن أبناء الشعب الفلسطيني أقل اهتماماً بالأمور التي يتحدث عنها السياسيون من اهتمامهم برؤية كيف يمكن أن تعطي صفقة لهم ولأجيالهم المستقبلية فرصاً جديدة، ووظائف أكثر وأفضل دخلاً، وآفاقاً أفضل للحياة”. أليس صهر ترامب -“مستشاره” لشؤون الشرق الأوسط، ومطور العقارات والمستثمر الأميركي- واهماً؟ بعد ثلاث حروب عربية-إسرائيلية، وعشرات الآلاف من الفلسطينيين القتلى وملايين اللاجئين، هل يعتقد جاريد كوشنر حقاً بأن الفلسطينيين سيقنعون بالنقود؟
ألم يلاحظ -أبداً- أن الفلسطينيين الذين احتجوا وعانوا وماتوا وفقدوا أراضيهم لسبعين عاماً، لم يكونوا يتظاهرون في شوارعهم من أجل إنشاء طرق أفضل، وبناء منطقة حرة أو مطار آخر؟ هل يعتقد أن الناس في غزة خرجوا إلى شوارعهم وساروا في اتجاه السياج الحدودي القاتل لأنهم يطالبون بعيادات جديدة للأمومة والطفولة؟ كيف يمكنه أن يهين شعباً عربياً كاملاً باقتراح أن حريتهم، وسيادتهم، واستقلالهم، وكرامتهم، والعدالة والوطنية هي مجرد “أمور يتحدث عنها السياسيون”؟ أما مِن نهاية لهذا الجنون؟
كلا، لا نهاية له فيما يبدو. لأن التفاصيل المتقطعة التي ترشح عن “الصفقة النهائية” التي يضعها ترامب وكوشنر في الصحف الإسرائيلية -و”هآرتس” الجليلة في مقدمتها- هي أنه سيكون على الفلسطينيين التخلي عن القدس الشرقية كعاصمة لـ”فلسطين” المستقبلية، وأن الإسرائيليين سينسحبون من حفنة من القرى في شرق وشمال القدس -وقرية أبو ديس الضئيلة من بينها- لإقامة “عاصمة” خادعة، لكنهم سيظلون إلى الأبد في “المدينة القديمة”. وأن الدولة الفلسطينية المستقبلية ستكون منزوعة السلاح بالكامل (من أجل “الأمن” في معظمه)، في حين أن كل مستعمرة يهودية أقيمت بشكل غير قانوني على الأراضي العربية -والمخصصة لليهود واليهود فقط- سوف تبقى، وأن الإسرائيليين سوف يسيطرون على كامل وادي الأردن. وحق العودة؟ انسوا أمره.
كل هذا في مقابل مليارات الدولارات التي ستُنفَق في مشاريع البنية التحتية، وإنشاء منطقة تجارة حرة في العريش في سيناء، وسيل من النقود إلى الضفة الغربية، وقيادة فلسطينية جديدة -سوف يخرج محمود عباس الفاسد، المتعجرف، الخرف والدكتاتوري، الذي كانت قيادته “بلا أفكار”، والذي لم يبذل أي “جهود تنطوي على آفاق تحقيق النجاح” (هذه الأخيرة من كوشنر، بطبيعة الحال)، لصالح رجل براغماتي جديد، والذي سيكون (في مزيد من التفكير الواهم) أكثر طواعية، وحباً للسلام وتذللاً حتى من عباس نفسه. وكل هذا الهراء سيعتمد على مصادقة بعض الأنظمة العربية وضعف الحال الذي تعاني منه أخرى.
هل يضحك المرء أم يبكي؟ عندما نقل ترامب السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وسط المذبحة في غزة، صرخ العالم -لكنه سرعان ما ركن إلى الصمت بعد ذلك. فقد عملت شاشة التلفاز المقسومة نصفين، بين عرض التملق الدبلوماسي في السفارة الجديدة في جانب، والقتل الجماعي الذي يحدث على بعد مائة ميل بالكاد في الجانب الآخر، عملت بشكل أو بآخر على تطبيع هذا المزيج من الموت وغياب العدالة في الصراع العربي-الإسرائيلي. نعم، لقد أفلت الإسرائيليون بهذا. وإذا استطاع الدبلوماسيون الأميركيون أن يجذبوا الانتباه إلى القدس ويصرفوه عن فرقعة رصاص القناصة على طول حدود غزة، فما هي الخطوة التالية؟
ثمة شيء غريب، كوميدي تقريباً، في صور “صانعي السلام” من دبلوماسيي أميركا وهم يجلسون حول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. في الغرب، نحن نختار -لسبب أخلاقي وجيه- أن لا نؤكد على الخلفية الدينية أو العرقية لهؤلاء الرجال. لكن الإسرائيليين يفعلون، والفيلسوف يوري أفنيري يفعل، وتشير “هآرتس” إلى ذلك: أنهم كلهم من اليهود -وأن اثنين منهم على الأقل هما من بين الأشد حماساً لاستعمار أراضي الضفة الغربية الفلسطينية، بمن فيهم سفير الولايات المتحدة إلى إسرائيل الذي يصف مجموعة الضغط اليهودية المعتدلة “جيه ستريت” بأنها “أسوأ من المشرفين على التعذيب في المعتقلات النازية”.
ألم يكن من الممكن، في داخل السلك الدبلوماسي الأميركي بأكمله و”مستشاري” أميركا كلهم، العثور حتى على مسلم أميركي واحد لينضم إلى الفريق؟ أما كان “صناع السلام” هؤلاء ليستفيدوا من صوت واحد فقط لرجل أو امرأة يتقاسمان الدين نفسه مع النصف “الآخر” من السلام العربي-الإسرائيلي المقترح؟
ولكن، كلا. وما كان ذلك ليحدِث فرقاً أيضاً. لقد قطع عباس كل العلاقات الدبلوماسية مع البيت الأبيض منذ اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وسحب سفيره من واشنطن. و”الصفقة النهائية -التي هي في الأساس اتفاقيات أوسلو، ولو أن هذه في حد ذاتها كانت كأساً مسمومة، ثم سلسلة كاملة من التراجعات والانسحابات والمزيد من الاحتلالات، ثم المؤتمرات المخصصة لـ”مكافحة الإرهاب”- أصبحت الآن مجرد إهانة كاملة للشعب الفلسطيني: لا قدس شرقية، لا نهاية للاستعمار، لا اعترافاً بحق العودة، لا دولة، ولا مستقبل. وإنما، مجرد نقود.
روبرت فيسك
الغد