قبل نحو قرن من الزمن، سقطت الخلافة العثمانية، وعلى أنقاضها أسس القائد العسكري والسياسي مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية (1923)، وعلى مقربة من ذكرى المئوية الأولى لقيام الجمهورية، يعيد الرئيس التركي “الجديد” رجب طيب أردوغان بناءها على قواعد جديدة وأسس مختلفة.
سيزور أردوغان فور أدائه اليمين الدستورية ضريح أتاتورك، وفقا لقواعد البرتوكول المعمول بها، ثم يعود إلى القصر الرئاسي لمباشرة مهامه الرئاسية وسط ابتهاج عارم من أنصاره وقلق بين الخصوم من القضاء على ما تبقى من الإرث الكمالي في تركيا ما بعد الخلافة.
في ملاعب الرياضة والسياسية
دخل أردوغان التاريخ التركي من بوابات متعددة، واستطاع أن يحجز لنفسه صفحات متعددة في دفاتر الأيام منذ أن التقط أولى صور الحياة يوم 26 فبراير/شباط 1954 في حي قاسم باشا، أحد الأحياء الشعبية الفقيرة بمدينة إسطنبول.
تنحدر عائلته من مدينة ريزه على شواطئ البحر الأسود، لكنه ولد بإسطنبول وعاش في أحيائها الفقيرة، وكان مثل الغالبية من أبناء جيله يحمل فوق عاتقه سنوات القهر والدكتاتورية التي توارثها النظام الكمالي.
وفي الحواري الفقيرة لقاسم باشا، تنقّل من بائع صغير للبطيخ من أجل عون والده على إعالة أسرته إلى عمدة لبلدية إسطنبول، وبين ذلك مسيرة حافلة بالصراع السياسي والتحصيل العلمي والمنازلة في ساحات مختلفة الخصوم والأدوات.
أخذت كرة القدم جزءا من شباب أردوغان، وكان يسعى لأن يكون لاعبا محترفا، غير أن الأيام نقلته إلى ملعب أوسع ومباريات ساخنة منذ أكثر من ثلاثة عقود.
سجل أردوغان خلالها أهدافا كثيرة في شباك خصومه داخل وخارج تركيا، وأحبط محاولات تسلل كثيرة، وكانت ضربات الترجيح الانتخابي تسنده دائما وخصوصا في اللحظات الحرجة.
وبين هذا وذاك، تنقّل بين المناصب الانتخابية والمسؤوليات السياسية، بدءا برئاسته حزب “الرفاه” الإسلامي عام 1985، ورئاسة بلدية إسطنبول (1994-1997)، ثم رئاسة الحكومة بين عامي 2003 و2014، ثم توليه الرئاسة عام 2014.
تعرض في يوليو/تموز 2016 لمحاولة انقلابية كانت ربما أخطر تحد سياسي وأمني واجهه نظامه منذ وصوله إلى السلطة في العام 2003.
سلطان الإنجاز
استطاع أردوغان وفريقه السياسي والاقتصادي رفع تركيا من حفرة الفشل الاقتصادي إلى قمة الدول العشرين الأقوى اقتصادا في العالم.
وقد أخذت نهضة تركيا الجديدة طابعا اجتماعيا حيث توسعت الطبقة الوسطى إلى حد كبير، ويقول أنصاره إن “الجيوب العامرة” في عهده كانت طريقا مفتوحا إلى القلوب، بينما يقول خصومه إن النهضة الاقتصادية التي بدأت في سنواته الأولى تراجعت في السنوات الأخيرة على وقع انهيارات الليرة وتراجع البورصة وزيادة معدلات التضخم.
لكن المؤكد أنه في عهد الرجل قضت تركيا على الكثير من مظاهر أزماتها الاقتصادية المزمنة، إذ اختفت طوابير الغاز والمستشفيات المكتظة، وتراجعت ملفات البؤس لتحل محلها نهضة اقتصادية باتت من أبرز ملامح الإنجاز الاقتصادي في العالم الآن.
ومع ذلك يواجه الاقتصاد التركي اليوم أزمات بنيوية حادة، إذ تشير الأرقام إلى ارتفاع معدلات البطالة التي بلغت 10.9% بنهاية 2017، وارتفاع التضخم عند معدل 10.2%، هذا فضلا عن ارتفاع الدين العام الخارجي البالغ 438 مليار دولار بنهاية 2017.
معركة الهوية
وجدت قطاعات الشعب التركي في أردوغان كثيرا من مطالبها المتعددة والمتضاربة، ولكن المتدينين بشكل خاص وجدوا فيه نظاما يحميهم من سنوات العلمانية المتوحشة.
فبعد استلامه السلطة، استعادت المرأة التركية حريتها في ارتداء الحجاب الذي منعته الحقبة الكمالية بشكل عنيف، كما عاد التعليم الديني إلى الحضور في الساحة التركية بعد أن كان محدودا في ظل الحقب السابقة.
وإلى جانب ذلك، فقد عادت مواقف أردوغان تجاه القضايا الاسلامية بتأييد جماهيري واسع انتظم مختلف أقطار وشعوب العالم الإسلامي.
ويقول أنصاره إنه كان الأعلى صوتا بين قادة العالم الإسلامي في الدفاع عن القضية الفلسطينية في الوقت الذي استدارت فيه زعامات عربية شطر تل أبيب، يسانده في ذلك زخم شعبي تركي قوي أثبت وقوفه بشكل مستمر مع القضية الفلسطينية وحساسية أكبر تجاه قضية القدس ومحنة غزة على وجه التحديد.
أولويات المرحلة
لا شك في أن أردوغان سيعيد ضبط بوصلة أولوياته في المرحلة الجديدة وفقا للظروف والتطورات التي تمر بها تركيا والمنطقة والعالم.
ويبدو الاقتصاد، الذي مثل البوابة الأهم التي عبر منها أردوغان وحزبه أول مرة إلى قلوب ملايين الأتراك حتى من خصومه السياسيين والأيديولوجيين، في مقدمة أولويات الرجل.
ويقول الخبير في الشأن التركي سعيد الحاج إن من أهم الإشارات على ذلك دمج الوزارات المتعلقة به وخفض عددها من ست إلى ثلاث ورفع وتيرة التنسيق بينها، فضلا عن التوقعات -غير المؤكدة حتى الآن- بعودة صانع النهضة الاقتصادية التركية علي باباجان ليقود دفة الاقتصاد.
وإلى جانب الاقتصاد يظهر ملف العلاقات الخارجية ضمن أولويات الرئيس أردوغان، وتأتي أهمية هذا الملف من البيئة الجيوستراتيجية التي تعيش فيها تركيا حاليا، حيث تضرب الاضطرابات والعواصف في كل اتجاه.
وفي عمق العاصفة يسعى أردوغان إلى إعادة توجيه أحداث المنطقة وفق أولوياته ورؤيته للمستقبل التركي.
وقد انتقلت سياسة تركيا في الآونة الأخيرة إلى المواجهة بدلا من الانتظار داخل الحدود، فأطلقت أكثر من عملية عسكرية داخل سوريا والعراق لمواجهة التنظيمات الكردية المسلحة وتنظيم الدولة الإسلامية بعد سلسلة ضربات كادت أن تعصف باستقرار تركيا.
Play Video
ومن بين النقاط البارزة في ملفات الرئيس أردوغان، يقف القضاء على تأثير غريمه فتح الله غولن والسعي إلى حسم وإنهاء تداعيات انقلاب العام 2016، سواء منها ما تعلق بما يصفه بتطهير المؤسسات العسكرية والأمنية من بقايا الانقلابيين، أو بمحاكمة آلاف المعتقلين على ذمة هذه القضية، أو لملمة الجراحات الداخلية التي خلفتها الحملة الأمنية والقضائية الواسعة على أنصار غولن.
ويمثل التعاطي مع تداعيات هذا الملف تحديا كبيرا في المرحلة القادمة، خصوصا مع وجود آلاف المعتقلين وعشرات آلاف المواطنين المفصولين من وظائفهم ليس فقط في المجالات العسكرية والأمنية، بل حتى في المجالات المدنية والخدمية.
ولحزب العدالة والتنمية نصيب من أولويات أردوغان في المرحلة القادمة، فقد تراجع الحزب في الانتخابات الأخيرة نحو 7% عن النسبة التي حصل عليها في الانتخابات السابقة.
ومن الطبيعي أن تكون أسباب هذا التراجع ومآلاته إحدى أولويات أردوغان، الذي يمثل الحزب بالنسبة له الرئة السياسية لمشروعه، وعبر مجاديفه استطاع عبور أمواج ليست هادئة غالبا.
ويحمل أردوغان في حقيبة أولوياته أيضا إرساء أركان النظام الرئاسي بما في ذلك تشكيل البنى والهياكل الإدارية والمؤسساتية المتعلقة به، ومحاولة إقناع المترددين به من المواطنين من خلال سرعة الإنجاز وكفاءة المؤسسات، فضلا عن مواءمة القوانين الداخلية مع الدستور الجديد.
في عهده الجديد، يبدأ أردوغان مسارا مغايرا من مسارات تركيا، يبحر في آمال جديدة، وسيواجه أيضا أمواجا جديدة وقوى سياسية داخلية وخارجية راهنت على إفشال مسيرته طيلة العقدين الماضيين.
المصدر : الجزيرة + وكالات,مواقع إلكترونية