يعيش صالح (34 عاماً) كغيره من أبناء منطقته وازن الواقعة تماماً عند المنفذ الحدودي الثاني لليبيا مع تونس، على تهريب السلع والمواد الغذائية باتجاه المناطق المجاورة لهم في تونس، لكنّ صالح لا يعتبر نشاطه تهريباً، بل تجارة كالتي ينشط فيها غيره من تجار البلاد.
تشرف على الجانب الليبي من هذا المنفذ مجموعة مسلحة تتبع لوزارة الداخلية، لكنّ تلك التبعية تبدو شكلية لا غير، فأفرادها من أبناء المنطقة ويتعاملون مع الحكومتين في البلاد ولا يتقيدون غالباً بمنظومة جوازات السفر الرسمية. يقول صالح إنّه لا يحمل جواز سفره إلاّ من أجل ختمه في الجانب التونسي، فعبوره المنفذ من الجانب الليبي لا يتطلب أكثر من إلقاء التحية أثناء مروره بأبناء أعمامه، وربما يأخذ منهم قائمة ببعض طلباتهم من المحال التونسية على الجانب الآخر: “أحياناً يطلبون سجائر أو طعاماً، فالمنطقة التي أقصدها قريبة، ولا أغيب أكثر من ساعة” يقول صالح.
تعتبر وازن مقصداً لمهربي الوقود الليبي فهناك صهاريج كبيرة أعدها السكان لشراء الوقود وحمله إلى التجار التونسيين على الجانب الآخر، ويجري الأمر من دون مراقبة أو محاسبة. يؤكد صالح أن “لا قانون هنا، ونحن من يحكم ويسيّر الأمور، ولا يمكن لأيّ جهة أن تتدخل إلاّ بمعرفتنا المسبقة”.
هذه المنطقة نموذج من عشرات القرى والمناطق المحاذية للحدود في كلّ الاتجاهات، وكلّها لا يخضع لسلطة الدولة الغائبة تماماً والمنشغلة في الصراعات السياسية والعسكرية، لا سيما في الشمال. يقول حسين السيناوني، وهو ضابط في الغرفة الأمنية الفرعية بمنطقة درج الحدودية مع الجزائر: “كلّ شيء مباح، وحكام المنطقة هم أهلها، والقانون فيها المصلحة”. يتابع أنّ سلطة الضبط تتفاوت بحسب الدولة الحدودية، فالمناطق الواقعة عل الحدود الجزائرية أو التونسية يتوافر فيها ضبط نسبي من جانب الدولتين أما مناطق الجنوب الحدودية (مع تشاد والنيجر) فمن دون رقيب أو حسيب.
يؤكد السيناوني أنّ حواجز ونقاط التفتيش هي برسم البيع إذ “كثيراً ما تمر بحاجز تفتيش بالقرب من منطقة غات (على الحدود الجزائرية) فتجد الميليشيا التي تحكمه قد وضعت رسوماً جديدة لأنّها اشترته من ميليشيا سبقتها، فرفعت بذلك الرسوم. يضيف: “نقاط التفتيش تلك القريبة من المدن الحدودية مهمة بالنسبة للمليشيات التي تعتاش منها، فهي نقاط مرور رئيسية لعصابات التهريب التي تدفع الرسوم للمليشيات لقاء العبور وعدم مصادرة بضائعها”.
يقتصر التهريب عبر وازن ودرج وغات على طول الحدود الليبية مع تونس والجزائر على السلع الأساسية والوقود بسبب رقابة الدولتين الجارتين. لكنّ أغرب حالات الانفلات الأمني في البلاد بحسب السيناوني تقع “وراء منطقة غات، فهناك تمركز سكاني غريب يعرف محلياً باسم، أبالول، يحذر سكان المناطق القريبة كلّ زائر من دخوله فمصيره سيكون مجهولاً”. يفسر: “السيطرة على سكانه استعصت حتى على النظام السابق، فهم خارجون عن سلطة أي دولة، بينما يديرون شؤون المثلث الحدودي بين ليبيا والجزائر والنيجر”. يتابع: “لا يخضع المثلث لسلطة أيّ من الدول الثلاث، وسبق لقوة فرنسية غير رسمية تنفيذ مهمة فيه، فهو من أكبر أسواق أفريقيا للممنوعات، يباع فيه البشر رقيقاً، والسلاح والمخدرات علناً”. يؤكد أنّ المعلومات عنه غير متوافرة بالكامل وتحميه مناطق محيطة به في كلّ من الدول الثلاث من بينها أبالول الليبية.
يتابع السيناوني: “يجب عليك الحصول على واسطة تدخلك إلى أبالول، ولا يجري هذا إلاّ عبر رؤساء العصابات فهي محصنة داخل الجبال ولا يمكن المرور من خلالها، ويعبر أهلها إلى الدول المجاورة بحرّية من دون جوازات سفر، ويعتاشون من توفير الحماية للمهربين الكبار”. يؤكد أنّ تنظيمات إرهابية كالقاعدة لها صلات وثيقة بأهالي المنطقة ويرتبطون معهم بأعمال نقل مقاتلين وأسلحة.
بالقرب من أبالول هناك منفذ التوم الحدودي مع النيجر، وهو من طرقات تهريب البشر. يتهم عادل معاون، وهو ضابط في جهاز الهجرة غير الشرعية بمنطقة مرزق بجنوب البلاد، دولاً كفرنسا بغضّ بصرها عن نشاطات التهريب التي تتم من خلال المنفذ، إذ إنّ “قاعدتها العسكرية، ماداما، قريبة من المنفذ، والمجموعات المسلحة التي تحمي تجار البشر، تمرّ بالقرب منها”. يقول: “كلّ مناطق الحدود الجنوبية مع النيجر مروراً بتشاد، وحتى السودان، خارجة عن سلطة الدولة، وتمتلك الكثير من السلاح، ويمكن للميليشيات التمرد ومقارعة أي قوة قد تحاول إخضاعها”. يشير إلى أنّ اللواء المتقاعد خليفة حفتر، فشل في إخضاع هذه المناطق وإرغامها على ترك نشاطاتها الممنوعة، بالرغم من طائراته الحربية.
لا يبدو الوضع في شرق البلاد مختلفاً، فالجغبوب على حدود مصر يسهل من خلالها الوصول الى سيوة المصرية بسبل ملتوية من دون المرور بالبضائع على محطات التفتيش أو المنافذ الرسمية. يؤكد عبد المنعم، أحد سكان الجغبوب، أنّه كثيراً ما حضر مناسبات اجتماعية في سيوة ورجع في اليوم نفسه، من دون أن يحتاج إلى ختم جوازه”. يحتج: “كيف لهم أن يفصلوا بيننا وبين أبناء أعمامنا؟”.
على بعد 580 كم إلى الشمال، تقع منطقة أمساعد، المنفذ الرئيسي للبلاد إلى مصر. أهلها يمارسون نشاطاً آخر يبدو أنّ السلطات المصرية باتت مرغمة على القبول به. أهل أمساعد ينتمون إلى طيف قبلي واحد يعرف باسم قبيلة الحبون، ولا يمكن المرور من المنفذ لأيّ مواطن باستثناء الشخصيات الرسمية أو الوفود الحكومية أو من يكون “مزكّى من حبوني” أو جاء من طرف شخصية معروفة من القبائل الأخرى في شرق البلاد.
يلزم المرور من منفذ أمساعد دفع رسوم تقدر بـ500 دينار، وتسجل الأسماء في قائمة ترسل إلى الجانب المصري وينتظر الشخص دوره حتى تصل الموافقة المصرية. يؤكد فؤاد بحي، وهو ضابط في الإدارة الرئيسية لجهاز حرس الجمارك بطرابلس، أنّ أفراد الحرس بمنفذ أمساعد غير رسميين، والإجراءات الخاصة بتحصيل تلك الرسوم والتفتيش غير قانونية، وتجري بشكل ارتجالي. يتابع أنّ تلك الرسوم تذهب إلى جيوب المجموعة المسلحة القبلية: “ختم الخروج من منفذ أمساعد إجراء رويتني للمرور من بوابات الجانب المصري”. يكشف أنّ مسلحي المنفذ لا يخضعون إلى أيّ سلطة على الإطلاق، والإجراء الوحيد للمرور منه هو التزكية من أحد أبناء القبيلة ليضيف اسمه إلى القائمة مقابل رسم مالي.
يقول الضابط في جهاز الهجرة غير الشرعية، عادل معاون، إنّ “الأهالي مجبرون على التعامل مع المليشيات فهي البديل الوحيد لتوفير الأمن من العصابات وقطّاع الطرق، كما أنّها توفر لهم سبيل العيش الوحيد عبر التهريب” لافتاً إلى أنّ المردود المالي لعمليات التهريب يزيد عشرات المرات عما يجنيه المواطن هناك من وظيفة أو صنعة.