سيفاري (مالي) – تشكل أعمال العنف في وسط مالي آفة تنهش بلا رحمة الحجر والبشر. فالتهديدات وسرقة المواشي وتحويل القرى إلى ركام، ورمي الرجال والنساء والأطفال في مقابر جماعية، فظائع ترتكبها أسبوعيا جماعات تتقاسم العداء.
ففي الأول من يوليو الجاري، أحرق أفراد ينتمون إلى مجموعة صيادين من إثنية الدوغون قرية بومبو، شرق موبتي مقر الحاكمية الإقليمية، فتسببوا بمقتل 16 شخصا، كما ذكرت جمعيات من قبائل الفولاني، وتشتيت سكانها الآخرين.
وفي شهر فبراير من عام 2017 لقي زهاء 20 شخصا مصرعهم في صدامات وقعت وسط مالي بين منتمين إلى أقلية الفولاني والبامبارا ممثلي أكثرية السكان هناك.
وذكرت وزارة الأمن الداخلي في مالي حينئذ أن “أعمال العنف التي استمرت لثلاثة أيام بين إثنتي البامبارا والفولاني في منطقتي كاما وسينيبامالنان، قد خلّفت ما لا يقل عن 20 قتيلا و15 جريحا فضلا عن الأضرار المادية الجسيمة التي حلّت بأماكن الصدامات”.
التدخل الدولي الذي قادته فرنسا في مالي في يناير 2013، والذي كان هدفه دحر المجموعات المتطرفة وإبعادها عن المناطق التي سيطرت عليها، ولئن توصل إلى إبعاد المجموعات الإرهابية عن مناطق إقليم أزواد الثلاث كيدال وغاو وتمبكتو، إلا أنه أنتج مظاهر عنفية جديدة امتزجت فيها الأبعاد القبلية والإثنية بالأبعاد الجهادية، إذ أن الصلات التي تجمع بعض المجموعات الإثنية بالتيارات الإرهابية ساهمت في رفع منسوب العنف وفي تعسير مهمة إرساء السلام في البلاد.
وكان نزاع الفولاني والبامبارا، نشب إثر مقتل مزارع من البامبارا في هجوم نسب إلى جهاديين، أعقبته ردود فعل انتقامية استهدفت أقلية الفولاني المتهمة بالتواطؤ أصلا مع الجهاديين في مالي.
وفي شهر يونيو الماضي قتل 32 شخصا من الرعاة الرحل من قبائل تتبع لإثنية الفولاني وسط مالي في هجوم نسب إلى صيادين تقليديين تطلق عليهم تسمية الدوزو، حسب منظمة تابيلا بولاكو وعضو المجلس البلدي في منطقة مويتي.
ومنذ ظهور الحركة الجهادية للداعية الفولاني أمادو كوفا في العام 2015 في وسط مالي، تتحول التوترات بصورة دورية إلى أعمال عنف بين الفولاني وهم من الرعاة الرحل، وبين إثنيتي بمبارا ودوغون اللتين يمارس القسم الأكبر منهما أعمال الزراعة.ولم يعد حمزلا بوكوم، المسؤول الإقليمي عن منظمة تابيتال بولاكو، أبرز جمعية للفولاني في مالي، يحصي مهمات التهدئة التي شارك فيها، وخصوصا في قطاع كورو، قرب حدود بوركينا فاسو، مركز أعمال العنف هذه. وقال “كلما هدأت الأمور، سرعان ما تستأنف أعمال العنف”.
وعندما حضر في مارس الماضي لقاء المصالحة بين قادة الفولاني والدوغون في كورو حيث تعهد رئيس الوزراء سوميلو بوبيي مايغا بـ”نزع سلاح الميليشيات سواء وافقت أم لم توافق”، اعتقد حمزلا بوكوم، وقتها، أن تحوّلا قد حصل. وقال لوكالة فرانس برس “أعترف، كنت أعتقد أنها نهاية الأعمال العدائية”.
لكن الانتهاكات المنسوبة إلى مختلف المجموعات، وبالتالي إلى العسكريين الماليين، قد تزايدت منذ ذلك الحين.
وفي الباحة الظليلة لمنزله التي يسمع فيها صوت المؤذن يدعو إلى الصلاة، يبدي توماسي دانيال سوغوبا، ممثل الكنيسة الأنجيلية في المجتمع المدني المحلي، دهشته إزاء سرعة توتر العلاقات القائمة منذ قرون.
قال هذا المتقاعد من وزارة التربية الوطنية “لم أفكر أبدا أن بلادي، مالي، يمكن أن تواجه وضعا مماثلا، من المجازر، الفولاني ضد الدوغون، البمباراس ضد الفولاني، إنها حرب عرقية”.
وأضاف سوغوبا الذي ينتمي إلى شعب مينيانكا، الموجود على حدود مالي وكوت ديفوار وبوركينا فاسو، أن “لكل واحدة من هذه الإثنيات ميليشياتها الخاصة بها”. وأضاف “فجأة، تراها تخوض الحرب، وتبدأ أنت بطرح الأسئلة”، مشيرا إلى تدخلات خارجية.
ويؤدّي التغير المناخي، مع المستوى المنخفض تاريخيا لنهر النيجر، إلى زيادة التوتر أيضا بين مجموعات الرعاة والمزارعين والصيادين ومستثمري الغابات، كما لاحظ المسؤول في منظمة تابيتال بولاكو.
ويُعقد سنويا في موبتي مؤتمر حول هذه الحقول الخصبة الواقعة في الدلتا السفلى للنهر، لتنظيم مواعيد مرور القطعان وعودتها إلى المراعي، كما قال حمزلا بوكوم.
وأضاف حمزلا بوكوم “في السابق، كان كل شخص يهتم بمصالحه، ولا يعمد أحد إلى إزعاج أحد. وكلما عادت المواشي من المراعي، يكون الحصاد قد انتهى. الأمور تتكامل: يأتي الحيوان، يخصب ويمضي. لكن في الفترة الأخيرة، عندما يأتي الحيوان، لم يكن المزارع قد قام بالحصاد بعد”.
الدولة المالية غالبا ما استخدمت مجموعات بديلة على أساس طائفي، فيما عمد الإسلاميون إلى عمليات تجنيد بين الفولاني
لكن بعد أن تسبب التغير المناخي في تقليص المساحات الخضراء على ضفاف النهر وأدّت الزيادة السكانية إلى استنزاف مياهه واتسعت مساحة الرقعة الزراعية بدأ أبناء قبائل الفولاني في الانزلاق سريعا إلى هاوية الفقر. وتصاعدت الصراعات بينهم وبين جيرانهم المقيمين في المكان.
مسألة التصدي للجهاديين وإيقاف أعمال العنف ذات الطابع الإثني هي مسألة متشابكة كثيرا، بحيث أن الدولة المالية غالبا ما استخدمت مجموعات بديلة على أساس طائفي، فيما يعمد الإسلاميون في وسط البلاد إلى عمليات تجنيد بين الفولاني.
وقال بوكوم “يجب ألا نتنكر للأمور الواضحة، ثمة مجموعات جهادية، وأكثرية هذه المجموعات هي من الفولاني على الأرجح”، وقال إن “الناس غالبا ما يخلطون بين الجهاديين والفولاني”.
وقال عبدالعزيز ديالو الذي يدير رابطة الشعب الفولاني المنتشر في 15 دولة “الفولانيون يشعرون بالتهميش في كل مكان. في مالي وفي غينيا وفي أفريقيا الوسطى”. وأضاف “في مالي تسلل في صفوفهم المتشددون الإسلاميون من الشمال وهناك خطر حقيقي تشكله ميليشيات فولانية جديدة ظهرت وتعمل على إذكاء فتن عرقية”.
الشعور بالتهميش، سواء من إثنية الفولاني أو من غيرها، إضافة إلى التغيرات المناخية والطبيعية التي ألقت بظلالها على الوضع الاقتصادي وعلى شبكة العلاقات الاجتماعية والقبلية، فضلا عن عدم تمكّن الدولة من بسط سيطرتها على العديد من المناطق، مع التحركات التي تخوضها الجماعات المتطرفة من أجل استرجاع مواقعها، عوامل تضافرت لتخلق وضعا أمنيا هشا قوامه ارتفاع منسوب أحداث العنف التي تتداخل فيها الأبعاد الإثنية بالمظاهر المتشددة.
وتتكرر هذه الاشتباكات أو يجري تجاهلها باعتبارها مجرد أحداث فردية محلية، لكن المتشددين الإسلاميين يستغلون غضب رعاة الفولاني لنشر الأفكار الجهادية من المناطق الشمالية قليلة السكان إلى وسط البلاد. وقال لالا واليت الذي يعمل بمنظمة غير حكومية تشجع تجارة الماشية “الفولانيون يشكون من استيلاء المزارعين على الأراضي”، مضيفا “جاء المتشددون وقالوا حسنا انضموا إلينا وسنساعدكم على القتال لاستعادتها”.
وذبح المتشددون أو قطعوا رقاب العشرات من المسؤولين المحليين في وسط وجنوب مالي عام 2015. وفي 13 أغسطس 2015 قتل 13 شخصا في حصار لفندق بيبلوس في سيفاري.
وأعلنت العديد من الجماعات الإسلامية مسؤوليتها عن الهجوم، لكن الحكومة أعطت مصداقية أكبر لإعلان جبهة تحرير ماسينا وهي جماعة إسلامية من الفولان مقرها موبتي ومتحالفة مع جماعة أنصار الدين. واماندو كوفا زعيم جبهة تحرير ماسينا رجل دين مفوّه يدعو في خطبه الفولانيين إلى إعادة بناء إمبراطوريات تاريخية مثل إمبراطورية ماسينا التي كانت تمتد يوما في منطقة موبتي.
التطرف الإسلامي وانتهاكات قوات الأمن والشعور بالإقصاء السياسي وتدفق السلاح من مناطق الصحراء الشاسعة في الشمال التي تفتقر لحكم القانون، كلها دوافع تجعل الظروف مواتية لتمرد قد يزعزع الاستقرار ليس في مالي فحسب، بل في غرب أفريقيا بأسره.
العرب