في حين أن الحضارات الأولى في العراق نشأت حول هبة دجلة والفرات، فإن ملايين العراقيين من شمال العراق حتّى الأهوار الجنوبية، التي تمّت إعادة إحياءها حديثًا، قد أصبحوا معرضون للخطر نتيجة قطع جارا العراق في الشمال والشرق – أي تركيا وإيران – مجرى مياه دجلة وروافده إلى العراق.
من يتحكم في مياه العراق؟
في الشهر الماضي، قطعت تركيا وإيران تدفّق المياه من نهر دجلة وروافده إلى العراق بحجّة ملء سدودهما. ووفقًا لوسائل الإعلام المحلية، قطعت إيران تدفق المياه إلى إقليم كردستان العراق، ما أدّى إلى موت الأسماك في المناطق التي كان يصبّ فيها النهر، وما تسبّب في كارثة بيئيّة خطيرة. في هذه الأثناء، نشرت وسائل الإعلام العراقية بعض أشرطة الفيديو المأساوية التي تظهر ناسًا يعبرون نهر دجلة على أقدامهم، وهو ما يؤكد فقدان النهر لكمية كبيرة من المياه.
وقد أثارت هذه اللّقطات فورًا ردود فعل ومشاعر خوف وقلق في أوساط المسؤولين العراقيين والمواطنين، خاصة أن منسوب المياه في نهري دجلة والفرات قد انخفض بنسبة 60٪ في غضون عقدين.
وردًا على أفعال الجانب التركي، صرّح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن الحكومة التركية كانت تستخدم مشروعًا للسدود لأغراض سياسية وأصبحت قدرات الري محدودة في جميع أنحاء البلاد. كما أضاف العبادي في إشارة إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت في الشهر الماضي إنّ: “القضية كلّها سياسية وانتخابية وتحاول تركيا استخدامها للفوز بأصوات مزارعيها.” وأضاف: “لقد ملأت الحكومة التركية حوض السد في هذا التوقيت عن قصد، وكنا قد طلبنا منها عدم القيام بذلك. لكن عارض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذلك، إذ صرّح أنّ تركيا أبلغت الحكام العراقيين منذ عشر سنوات بضرورة تخزين المياه وقال ممازحًا: “ليس لهم آذان صاغية.”
كما اتّهم القنصل الإيراني العام في السليمانية سعدالله مسعوديان بغداد بإهمالها معالجة مصادر موضوع المياه المشتركة، قائلًا: “منذ العام 2017، ونحن قد طلبنا عدة مرات من الحكومة العراقية تشكيل هيئة لإبرام اتّفاقيّة مع إيران بشأن كيفية استخدام نهرَيْ سيروان والزاب الصغير، وكنّا قد طلبنا أيضًا من حكومة إقليم كردستان أن تطلب من الحكومة العراقية تشكيل هيئة لمناقشة كيفية استخدام نهرَيْ سيروان والزاب الصغير العابرَين للحدود واتخاذ قرار بشأن ذلك.”
ونظرًا إلى أنّ نهر دجلة ينبع من تركيا ويمرّ في قلب العراق العربي، فإن كل الجهود الدبلوماسية المكثفة التي قامت بها بغداد ركّزت على أنقرة. فعرفت الأزمة استراحة مؤقّتة عندما وافقت تركيا على أن تكون أكثر صبرًا في ملء سدّها. وقال السفير التركي لدى العراق فاتح يلدز في مؤتمر صحفي في بغداد في 5 حزيران/يونيو إنّ بلاده ستطلق “كميات كافية من المياه”.
وفي الأيام التالية، قد تكون أقنعت مفاوضات أخرى، إلى جانب الغضب الشعبي للعراقيين على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك الوسم الموجَّه لمقاطعة المنتجات التركية #boycotTurkishProducts، الأتراك بعرض صفقة أفضل لبغداد. ففي 7 حزيران/يونيو، أعلن يلدز عبر حسابه على تويتر أن تركيا قد علّقت ملء سدّ إليسو. وقال يلدز: “بدءًا من هذه اللحظة، يتم تحويل مجرى مياه دجلة إلى العراق من دون لمس قطرة منه في إليسو.” وأضاف: “عبر اتخاذنا القرار الثاني بالتأجيل، أظهرنا مرّة أخرى أننا نستطيع أن نضع احتياجات جيراننا قبل احتياجاتنا”. وفي وقت لاحق أكد وزير الموارد المائية العراقي حسن الجنابي أنه تم التوصل إلى اتفاق مع تركيا لحماية مصالح العراق.
لكنّ، على الرغم من اتفاق حزيران/يونيو، الذي علّقت بموجبه تركيا ملء سدّ إليسو، والمدفوع جزئيا من قبل حملة شعبية على الأنترنت لمقاطعة المنتجات التركية، إلا أن عواقب الأعمال التركية ستكون كارثية على المدى الطويل. ففي أوّل مجرى النهر، قد يُغرق سد إليسو التركي أحدى أقدم الحضارات في العالم، وهي قرية حسن كيف التي يعود تاريخها إلى 12,000 سنة وتقع في الجزء الكردستاني من تركيا، أمّا في آخر مجرى النهر، فقد يؤدي أيضًا إلى القضاء على حضارات ما بين النهرين، بما فيها “جنة عدن” التي أعيد بناؤها حديثًا في العراق، وإلى إجبار السكان على الهجرة، وإلى انقراض الحيوانات وتسريع التّصحّر، وبالتالي هزّ النسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي، ما يغذّي شيئا لا تفتقر العراق إليه – ألا وهو الصراعات الداخلية.
نقص المياه يؤدى إلى زيادة التوترات الداخلية
أدت ندرة المياه إلى تفاقم إحدى أكثر مشاكل العراق استعصاء، وهي غياب السلطة المركزية وسيادة القانون نتيجة زيادة ونمو العشائرية في المجتمع العراقي، إذ تمّ توحيد خطوط القبائل والعشائر وتعزيز تماسكها في العراق بعد العام 2003 كطريقة لحماية أنفسهم والدفاع عنها. وكان أحد مصادر هذا الصراع ندرة المياه التي يبدو أنها قد حولت الصراعات الكامنة الأساسية إلى صراعات واضحة بين مختلف القبائل والعشائر حتى قبل أزمة المياه في حزيران/يونيو. وتعكس الاحتجاجات الأخيرة في البصرة افتقار المدينة إلى الطاقة الكهربائية، والتآكل الاجتماعي الذي أجّجه غياب الموارد الحيوية مثل المياه.
ومن أجل معالجة نقص المياه، اتخذت الحكومة العراقية بالفعل بعض التدابير غير الشعبية المقترنة بآثار مالية تؤثِّر مباشرة في معيشة المزارعين العراقيين، حيث حظرت على المزارعين زراعة الأرز والمحاصيل الأخرى من أجل توفير المياه. وقد أثار هذا الإجراء أيضًا احتجاجات من جانب المزارعين الذين اتهموا الحكومة بسلبهم مصدر الإيرادات الوحيد لهم. كما أثارت تلك التدابير مسألة ما إذا كان بإمكان الحكومة إجراء تغييرات محلية فقط، أو ما إذا كان بإمكانها إقناع جيرانها بالسماح بالمزيد من المياه للتدفق إلى العراق على أساس دائم.
في حقيقة الأمر أصبح العراق في موقع مساومة ضعيف وذلك بالمقارنة بالقوى الإقليمية الأخرى مثل إيران وتركيا، حيث مرت البلاد بأزمات متتالية وافتقدت لحكومات فعّالة، وشهدت انهيار اجتماعي ناجم عن الانقسامات العرقية-الطائفية. ومن ثم، سمحت هذه القضايا الداخلية لأنقرة وطهران بإعطاء الأولوية لمصالحهما المائية دون أي معارضة فعلية من قبل بغداد. وعلاوة على ذلك، فإن وضع العراق العسكري والدبلوماسي الضعيف لا يعطي كلا الدولتين حافزاً يذكر للتفاوض مع بغداد.
ومع ذلك، يثبت التاريخ البعيد للعراق أنه قادر على المناورة بنجاح ضد مشاريع السدود الإقليمية، إذ استخدمت الحكومات السابقة النفط كورقة مساومة لإجبار تركيا على مراجعة سياستها الخاصة بالمياه تجاه البلاد. وردًا على رعاية البنك الدولي للسدَّيْن الكبيرَيْن على نهر الفرات في تركيا في سبعينيات القرن الماضي، تصدّت بغداد لأنقرة من خلال وقف تصدير النفط إليها وأصرّت على ضرورة دفع أنقرة ديونها النفطية التي بلغت 330 مليون دولار في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1977. ولم تستأنف بغداد تصديرها للنّفط إلّا بعد أن طمأنتها أنقرة بإطلاق كميات كافية من المياه. إضافة إلى ذلك، تلقت تركيا ثُلْثَيْ نفطها من العراق وكانت مصادر نفطها أقلّ تنوّعًا. لكنّ الوضع مختلف تمامًا الآن.
وعلى الرغم من أن العراق لا يزال أكبر مصدّر للنفط إلى تركيا، فإن معظم النفط يأتي من إقليم كردستان العراق الذي نسج علاقات اقتصادية وتجارية قوية مع أنقرة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. وإذا فكّر العراق في يوم من الأيّام في التسلّح بالنفط كأداة للدبلوماسية، فعليه أن يمر عبر أربيل أولًا لتفعيل هذا السلاح – وإنّ حدوث هذا السيناريو مستبعد، بسبب انعدام الثقة بين الأكراد وبغداد، وخاصّة بعد استخدام العراق قواته العسكرية ضد القوات الكردية في كركوك في تشرين الأوّل/أكتوبر من العام الماضي، فضلًا عن وجود بعض القضايا البارزة بين إقليم كردستان والعراق كقضايا النفط والميزانية والمسائل المتعلّقة بالأراضي، والتي وقفت حائلاً أمام حدوث تعاون وثيق بين العراق وكردستان للضغط على تركيا.
والأن، يتعيّن على العراق تعويض قدرته المحدودة على المساومة من خلال اتّباع استراتيجية متعدّدة المستويات وطنيًّا وإقليميًّا ودوليًّا. فعلى المستوى الوطني، يجب أن يتوصل العراق إلى شروط دائمة مع حكومة إقليم كردستان حول قضايا النفط والغاز والميزانية والمسائل المتعلّقة بالأراضي التي منعت العراق من المضيّ قدمًا في توظيف الأدوات الدبلوماسية الفعالة خاصة مع تركيا. أمّا على المستوى الإقليمي، فتحتاج بغداد إلى دبلوماسية استباقية معزّزة من خلال تشكيل لجان ثنائية/متعددة الأطراف لمتابعة قضية المياه والسعي إلى إدارة الموارد المائية وتعزيز الشركات الثنائية مع الدول المجاورة. وأخيرًا، على المستوى الدولي، يمكن للعراق استخدام المؤسسات الدولية والإقليمية للضغط على طهران وأنقرة من أجل تأمين حصّته من المياه بعدل.
وآخرًا، إذا تمكنت الحكومة العراقية من أن تنحى خلافاتها جانباً وأن تشكل جبهة موحدة ومتواصلة بشأن هذه القضية الحيوية، فربما تعترف تركيا وإيران بأن استقرار العراق الاجتماعي والسياسي هو في مصلحة كلا البلدين. وكما أظهرت حالة تنظيم الدولة الإسلامية، عندما يواجه العراق عدم الاستقرار، فإن ذلك لا يتم احتواؤه داخل حدود العراق فقط نظرا لأنه سيمتد بالضرورة إلى المنطقة بشكل عام.