مع بدء العد التنازلي لمعركة القلمون، يتواصل الحشد العسكري لمعركة تكتسب أهميتها الإقليمية والدولية بوصفها علامة فارقة بين مرحلتين في تاريخ صراعات المنطقة العربية.. مرحلة ما قبل وما بعد حكم عائلة الأسد في سوريا.
هذه المعركة كانت محورا للخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عقب مصرع قائديْ عملياته هناك -أحدهما عضو مؤسس بحزب الله اللبناني- حيث جدد التأكيد على ارتباط مصيره بمصير الرئيس السوري بشار الأسد، وتوعد فصائل المعارضة السورية بالانتصار في معركة القلمون الفاصلة التي لم يذكر شيئا عن موعدها وتفاصيلها المتروكة للأفعال لا الأقوال، حسب تصوره آنذاك.
“تحيط جبال القلمون بدمشق وغوطتها الغربية على شكل قوس يمتد حولها من جهتها الغربية نحو الشمال فالشمال الشرقي. وبما أن جبال القلمون متصلة بسهل البقاع اللبناني غربا، فإن من شأن السيطرة عليها التحكم بالشريان المتبقي للعاصمة نحو الخارج “
جغرافيا تحيط جبال القلمون بدمشق وغوطتها الغربية على شكل قوس يمتد حولها من جهتها الغربية نحو الشمال فالشمال الشرقي. وبما أن جبال القلمون متصلة بسهل البقاع اللبناني غربا، فإن من شأن السيطرة عليها التحكم بالشريان المتبقي للعاصمة نحو الخارج ألا وهو طريق دمشق بيروت، بعد أن سقطت بوابات تركيا والأردن والعراق بيد المعارضة.
ونفس الأمر ينطبق على التواصل الجغرافي الوحيد للعاصمة مع الساحل السوري عبر طريق حمص. هي إذا معركة حياة أو موت من الطراز الأول لبعض أطراف الصراع، وعلامة فارقة من الناحية الإستراتيجية لمرحلة ما بعد نظام حزب البعث.
لذا فمن الطبيعي ألا يرتبط توقيت بدئها بانتهاء الحشد العسكري لهذا الطرف أو ذاك، بل بانتهاء الترتيبات الإقليمية الجارية للمرحلة المقبلة على ضوء تقاطع مصالح الأطراف.. ترتيبات تحمل في مجملها أخبارا غير سارة بالنسبة للسيد حسن نصر الله على ضوء ربطه مصيره في أكثر من مناسبة بمصير الرئيس السوري بشار الأسد، ليصبح خياره الوحيد الحسم في الميدان، لا على طاولة المفاوضات.
أما مواقف بقية أطراف الصراع من معركة القلمون فتتراوح ما بين مضطر لخوضها كإيران وحلفائها بمن فيهم نظام اختزلت كل أوراقه داخل عباءة الولي الفقيه، وباحث عن بدائل كروسيا وأميركا وحلفائها، ومتموضع بين الأطراف السابقة كإسرائيل، ومتعجل لحسمها -قبل أن تبدأ- كالثوار والمحور السني في المنطقة، ومنتظر حصته من الغنيمة كيف سارت الريح كداعش (تنظيم الدولة الإسلامية).
الأعجب من بين تلك المواقف هو الموقف الإيراني الذي ينسحب على حسن نصر الله، فرغم النتائج الكارثية والهزائم المتتابعة التي تعبر عنها التوابيت العائدة بالجملة لطهران والضاحية الجنوبية بشكل يومي، بقيت معزوفة إبقاء الوضع السوري على حاله دون تغيير، والمقصود هنا الحفاظ على شكل الدولة التي لم تعد دولة، وسحق للمعارضة السلمية والمسلحة التي باتت المسيطرة على الوضع برمته، مع بقاء معزوفة الممانعة والمقاومة على حالها.. مقاومة لم تعد تقوى على المقاومة، وممانعة أضعف من أن تمنع استباحة الممانعة.
لذا فمن الطبيعي في ظل الاستنزاف الخطير لمحور الممانعة والمقاومة -اقتصاديا وعسكريا وإستراتيجيا- أن ترفض المعارضة السورية دفع الثمن المطلوب -إيرانيا- للتخلي عن حكم عائلة الأسد، ومن ضمنه المليارات التي استثمرتها إيران في نظام الأسد، والاحتفاظ بالعقارات التي تنازل عنها النظام السوري للإيرانيين في دمشق وحلب، وامتيازات لا تمت للواقع وكلها لن تضمن حتى الإبقاء على ورقة حزب الله مع انكسار الهلال الشيعي في المعسكر السوري.. مطالب تنم عن وقاحة معتادة وفي موقف يتطلب تغريم كل من ساهم في جرائم الإبادة بحق الشعب السوري فاتورة التعويضات لأجيال.
انعدمت أوراق القوة على صعيد التفاوض، وجر الجانب الإيراني معه حسن نصر الله وبقية تجار الحروب الإيرانيين نحو الحل العسكري، سواء استوعبوا أن التغيرات الإقليمية في غير صالحهم أو لم يستوعبوها، ولكن هل النصر -المستحيل نظريا- بمعركة القلمون يمكنه إخراج إيران -وبالتالي حلفائها- من أزماتهم؟ أليست السياسات الأمنية الفاشلة في سوريا هي ذات السياسات التي مهدت لقيام انتفاضة الأحواز وكردستان وبلوشستان؟
“حركت داعش جحافلها البرية من الرقة والموصل أقصى الشرق صوب القلمون أقصى الغرب لوضع جيش فتح القلمون المؤلف من عدة فصائل ثائرة بين فكي كماشة مليشيا المقاومة والممانعة الإيرانية من جهة ومليشيا خلافة داعش من جهة أخرى”
أليس خروج إيران الحتمي من اللعبة انتهاء لدور حسن نصر الله فيها؟ ألم يعد الهلال الشيعي بقلب العالم السني -وصولا للبحر المتوسط من جهة، وللبحر الأحمر ومضيق باب المندب من الجهة الأخرى- حلما من الماضي، لا يسعفه رفد إيران معركة القلمون بقسم من قواتها المتخصصة بحرب العصابات في الجبال بقيادة بهمن رحماني و”فرق السماوات” المتخصصة بالاستطلاع والاستخبارات وطائرات المراقبة؟
ألم يعد السيناريو الأرجح توظيف جل هذه القدرات لإخماد ثورات إيران الداخلية على حساب ثورات خارجية أثبتت التجربة السورية أن لا قبل لهم بها ولا لمليشيا حسن نصر الله وحلفائه؟ ألم يبدأ الإعلام الرسمي السوري في الإشارة بالفعل لبيع إيران وروسيا حليفهما بدمشق؟ ومن يبيع حليفا -ثم خادما- كالأسد ألن يبيع خادما كنصر الله غدا؟ وإذا كانت إيران ستتخلى عن حليفيها بهذا الشكل في معركة القلمون لصالح انهماكها في الشأن الداخلي، فعلام يراهن نصر الله في معركة لم تكن معركته ولا قبل له بها؟
هل يراهن الرجل على روسيا التي باعت العراق ثم سوريا لتحصر موطئ قدمها في المنطقة بنصف دولة ساحل علوية وقاعدة بحرية بطرطوس على ضوء تفاهمات روسية أميركية؟ ألم يتعظ من أن صواريخ البحرية الروسية ضد ثوار سهل الغاب لم تتجاوز التحذير من مغبة الزحف صوب اللاذقية؟
وحتى التعويل على تخادم مرحلي مع ما تسمى بدولة الخلافة أو داعش التي أعفتها حسابات دولية وضغوط تركية من خوض معركة الموصل مرحليا ريثما تنتهي معركة القلمون، لن يفيد هو الآخر.
صحيح أن داعش حركت جحافلها البرية من الرقة والموصل أقصى الشرق صوب القلمون أقصى الغرب لوضع جيش فتح القلمون المؤلف من عدة فصائل ثائرة بين فكي كماشة مليشيا المقاومة والممانعة الإيرانية من جهة ومليشيا خلافة داعش من جهة أخرى، وصحيح أن هذا الزحف ما كان ليتم لولا إزالة النظام وحزب الله حواجز الطريق كما أزيلت مع اجتياح داعش مخيم اليرموك، وصحيح أن ضربات التحالف الجوية أغمضت العين عن زحف داعش مئات الكيلومترات تماما كما تغمض براميل بشار المتفجرة عينها عن مواقعهم على الدوام، ولكن ألم ينته الزحف بإبادة طلائعه على يد جيش الإسلام وجيش فتح القلمون؟
ما تبقى لحسن نصر الله فقط حساب مفتوح ومعركة ثوار بالوكالة -وقد تكون الأخيرة- مع محور سني احتضنه يوما ما قبل أن يصل لنتيجة مؤداها أن لجم مغامرات نصر الله ونفَسه الطائفي لا غنى عنه لإيقاف عبث إيران بشعوب ومصالح المنطقة من جهة، ولإعادة رسم خرائط مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة.
إزاء ذلك وبالنظر إلى بعض الحسابات المتصلة بالميدان من الناحية العملية، فإن جيش الفتح الذي يضم عدة فصائل معارضة هو الذي أعطى إشارة بدء معركة “الفتح المبين” في جبال القلمون الغربي لـ”تحرير جميع القرى والمدن في المنطقة” وفق بيانه الأول.
واستفتح المعركة بهجوم مباغت نفذه المقاتلون على نقاط وحواجز محيط بلدات جبال القلمون الغربي ليخرجوا نصر الله متوعدا إلى الشاشة بعد مقتل قادته، وليكون الرد قتلهم خمسة آخرين من قياداته وأكثر من سبعين من عناصره في الأسبوع الذي أعقب خطابه.
“تبدأ معركة القلمون اليوم من النقطة التي توقفت عندها قبل موسم الثلوج، الحزب على قمم السلسلة الجبلية الواقعة بين سوريا ولبنان ومعها معظم مدن وبلدات القلمون الغربي، في حين أن الثوار يحيطون به في التلال والجبال المحيطة بما في ذلك الكهوف الجبلية التي قضوا فيها الشتاء “
ميدانيا تبدأ معركة القلمون اليوم من النقطة التي توقفت عندها قبل موسم الثلوج، الحزب على قمم السلسلة الجبلية الواقعة بين سوريا ولبنان ومعها معظم مدن وبلدات القلمون الغربي، في حين أن الثوار يحيطون به في التلال والجبال المحيطة بما في ذلك الكهوف الجبلية التي قضوا فيها الشتاء الطويل بما استطاعوا تخزينه من مؤن وعتاد، وبخلاف ما كان يأمل فيه نصر الله من أن قسوة الشتاء ستجبرهم على الانسحاب.. شتاء تعيق ثلوجه حركة كل طرف لتجعل العمليات العسكرية والاقتحامات غير مجدية.
قبل الشتاء فشل نصر الله وحلفاؤه في حسم معركة ما قبل الشتاء بـ25 ألف مرتزق يفوقون الثوار عدة وعددا وخبرة غذتها حروب حزب الله، وبإسناد جوي لطيران النظام ومدفعي صاروخي. هل سينجح هذه المرة في حشد لا يتجاوز 15 ألفا جلهم إما ناجون من هزائم حلب وإدلب وإما حوران وإما عديمو الخبرة بحرب جبال أمام ثوار حرب العصابات والأفخاخ والكمائن، وكل ما تتطلبه وعورة التضاريس من خفة حركة وتجهيز لوجستي؟
توحد الثوار هنا في غرفة عمليات واحدة متجانسة تستنسخ انتصاراتهم في إدلب بجيش الفتح الذي تكون الآن في حلب وفي الغوطة وريف حمص الشمالي، إنهم ثوار لديهم سبب يقاتلون من أجله وأرض يموتون دفاعا عنها، ووعي إستراتيجي يدرك أهمية الخلاص من نظام بجبروته وبراميله اليومية المتفجرة.
سقوط القلمون إذا سقوط أخير لحسن نصر الله ومعه روح طائفية عربدت بالمنطقة وسيطرت على كافة مفاصل الدولة اللبنانية.. وهي حقيقة أدركتها -ولو بعد حين- دول المنطقة السنية، يعبر عنها النائب الشيعي اللبناني المناهض لحزب الله وولاية الفقيه عقاب صقر بعبارة جلية: “السعودية لن تقف مكتوفة الأيدي في معركة تبدأ في القلمون لتنتهي ربما في مكة”. وما ينطبق على السعودية ينطبق على تركيا التي تقع القلمون في فضائها الإستراتيجي، كما ينطبق -قبل كل شيء- على ثوار سوريا التي تقع القلمون منهم بمنزلة القلب لا أقل.
جهاد صقر
الجزيرة نت