أصبح واضحًا واقع السجون المأساوي، وما يتعرض له المعتقلين والمعتقلات في سجون العراق منذ عام (2003) وإلى الآن، ولا يخفى على أحد أبشع صور التعذيب والإهانات وانتهاك الكرامة في سجون باتت لهم كالمقابر، دفنوا فيها وابتلعهم الصمت وتجاهلهم الإعلام العربي والعالمي بشكل معيب ومخزي، اعتقل البعض نتيجة الدعوات الكيدية والمخبرين السريين والتهم الملفقة أو لمجرد الهوية السنية المتهمة دائمًا بالإرهاب دون غيرها وما يرافقها من فترات تعذيب وحبس طويلة تنفذها الحكومة الطائفية والميليشيات المتطرفة، والتي كان الإعدام بوابة الخلاص الوحيدة من الجحيم الذي يلقاه المعتقل، حيث مات المعتقلون تحت التعذيب، ومنهم من تسبب التعذيب بإعاقته جسديًا أو عقليًا، وآخرون لم يكن أمامهم خيار ثالث، فإما الموت تحت تعذيب الجلادين أو الرضوخ لما يريدونه، فاضطروا للاعتراف بالقيام بعمليات عسكرية أو الإنتماء لجماعات مسلحة.
نشرت سابقًا في تقرير مفصل من جزئين بعنوان ذهب الاحتـــلال وأتى الإذلال: القصص المجهولة في سجون العراق، عن عدد السجون والمعتقلات الحكومية والسرية والتي تديرها الأجهزة الأمنية والميليشيات الشيعية الطائفية ووسائل التعذيب التي تمارس بحقهم، إلا أن المعاناة مستمرة فبعد أسبوع على مجزرة سجن الخالص في المدينة ذات الأغلبية الشيعية والمسيطر عليها من الميليشيات والقوات الحكومية والتابعة لمحافظة ديالى، قامت مجموعة من المسلحين التابعين للمليشيات بقتل عشرات المعتقلين السنة وحرق البعض وتعريتهم في ظروف قد تبدو غريبة، إلا أن هذا المشهد قد تكرر أكثر من ثلاث مرات في سنتين، وتهريب عدد من القياديين في ميلشيا الحشد والمقاتلين فيها.
وكان لابد من التطرق لسجن الناصرية، وهو من أسوء السجون في جنوب العراق، والذي يعاني فيه ما يقارب العشرة آلاف معتقل ومعتقلة من الوايلات، ويعد سجن الناصرية أو سجن الحوت أحد السجون التابعة لدائرة الإصلاح العراقية، وإحدى دوائر وزارة العدل والتي تدير شُؤون السجون التابعة الوزارة في عموم محافظات العراق، ويقع السجن في صحراء الناصرية التابعة لمحافظة “ذي قار” جنوب العراق، وهو من أشد الأماكن التي يتعرض فيها الأسرى السنة إلى التعذيب اليومي، حيث يموت العديد من النزلاء تحت صعق الكهرباء والتعذيب الهمجي.
تعرض أغلب المعتقلين لألوان من التعذيب منذ اعتقالهم، وأُجبر أكثرهم على الإدلاء باعترافات عن القيام بأعمال لم يرتكبونها، كالقيام بعمليات مسلحة ضد القوات الحكومية والانتماء للجماعات المسلحة، وتم نزع اعترافاتهم تحت التعذيب وحوكموا على ضوئها، ويُجبر السنة في سجن الناصرية على الدخول في حلقات التثقيف للتشيع مع وعود بإطلاق السراح أو تخفيف المدة، ويتعرض للتعذيب من يرفض ذلك.
وعدد المعتقلين في سجن الناصرية تجاوز ٩ آلاف، معظمهم يؤكد بنفسه أو يؤكد المقربون منه، أنه لم يسبق له الاشتراك بأي نشاط ضد الحكومة وأغلبهم من أهل السنة ومِن سكان محافظات بغداد والأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى وكركوك والبصرة، وجميعهم اعتقلوا تحت طائلة المادة الرابعة من قانون مكافحة الإِرهاب، الَّذي صدر عام 2005 أو ما تسمى بمادة “4 سنة”، حيث أصبحت ذريعة للاعتقال ولم يستثنى أحد من السنة، حتى طال وزرائهم مثل طارق الهاشمي نائب الرئيس نوري المالكي في الدورة السابقة، والنائب أحمد العلواني وغيرهم، وكان إلغاء هذه المادة والإفراج عن المعتقلين من أهم مطالب المظاهرات العراقية السلمية التي قمعتها الحكومة الطائفية ونتج عنها هذا الصراع المسلح.
يضم سجن الناصرية مئات المعتقلات المدانات من نساء أهل السنة، ونحو١٠٠ من السجناء العرب وأغلبهم من السعودية وسوريا، وتنفذ أغلب عمليات الإعدام في سجن الناصرية، حيث يعدم شهريًا ما لا يقل عن ٣٠ أسيرًا في لائحة تضم حوالي ١٨٠٠ شخص محكوم عليهم بالإعدام، وتم إعدام ثلاثة جزائريين وسوري خلال وجبة الإعدامات في الشهر الماضي، وتم تخفيف الضغط على المعتقلين السعوديين والسماح بالزيارات العائلية مؤخرًا.
مُنِعَ معتقلو سجن الناصرية كغيرهم من المعتقلين في سجون وزارة العدل العراقية من اللقاء بعوائلهم ومحاميهم منذ شهر كانون الثاني مطلع العام 2014 الماضي، بموجب قرار من وزير العدل العراقي السابق “حسن الشمري”، وبعد مطالبات عديدة من المُنظمات الحُقوقية الدولية والعراقية كمركز بغداد لحقوق الإنسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا، إضافة للشكاوى والمُطالبات التي قدمتها عوائِل المُعتقلين، قررت وزارة العدل الحالية في شهر آذار الماضي السماح بالزيارات الشهرية لذوي المعتقلين، والآن يسمح للنساء دون الرجال بزيارة ذويهم المعتقلين في سجن الناصرية وذلك بتخصيص يوم الخميس من كل شهر لقسم من أقسام السجن الأربعة، فتكون حصةَ المعتقل زيارة واحدة في كل شهر، وترفض إدارة السجن السماح خلال الزيارة بإدخال الملابس والمواد الغذائية والأدوية وباقي المستلزمات الطبية للمعتقلين.
ورغمَ القرار الذي اتخذته وزارة العدل بإعادة العمل بالزيارات الشهرية للمعتقلين إلا أن الوزارة لم تسمح لأي من المحامين العراقيين بزيارة موكليهم المعتقلين في سجن الناصرية المركزي وأغلب سجونها الأخرى.
أما التعذيب في سجن الناصرية، فيصفه عدد من المعتقلين الذي أُفرج عنهم ويوثقه مركز بغداد لحقوق الإنسان، حيث يتعرضُ معتقلو سجنِ الناصرية لتعذيب مستمر من قبل موظفي السجن، فعلى المستوى اليومي يقوم الموظفون وخاصة قوات طوارئ السجن بعمليات تفتيش يومية لزنزانات السجن، ويبدأ التفتيش بدخول المفتشين إلى زنزانات كل جناح الواحدة تلو الأخرى وحسب التسلسل، ثم يقومون بإخراج معتقلي الزنزانة إلى الممر الرابط بين زنزانات الجناح، ويقومون بتفتيشهم بطرق همجية مهينة ويعرونهم من جميع ملابسهم، وينهالون عليهم بالضرب بالعصي الكهربائية والقضبان المعروفة في السجون بـ “الدونكيات”.
يُجبر المعتقلون على البقاء واقفين في الزّنزانات (وقوفًا وعلى رجل واحدة)، لساعات طويلة يراقبهم خلالها المنتسبون وضباطُ السجن، ما يؤدي إلى سقوط عدد من المعتقلين مغمى عليهم، وخاصة المرضى منهم وكبار السن، كما يقوم المنتسبون بسب وشتم المعتقلين وعوائلهم والنيل من مقدساتهم الدينية والمذهبية وسب الصحابة والرموز الدينية الخاصة بالسنة وقياداتهم الدينية والسياسية والعشائرية والمجتمعية الأخرى.
وعلى المستوى الأُسبوعي يتعرضُ المعتقلونَ لنفسِ طريقة التَّعذيب خلال إخراجهم لغرض التَّشميس، إضافة للمرضى الذين يخرُجون أُسبوعيًا للعيادة الطبية يتعرضون لنفس طريقة التعذيب والتفتيش، ويُجبر المعتقلون على النوم والاستيقاظ في ساعات غير محددة تختلف باختلاف وجبات الحراس، فكل وجبة يجبر المعتقلون بالنوم والاستيقاظ بساعات تختلف عن الأوقات التي تحددها الوجبات الأخرى، ويمنع المعتقلون من رفع الأذان ومن صلاة الجماعة.
وكما كشف مركز بغداد لحقوق الإنسان والمنظمةُ العربية لحقوق الإنسان ببريطانيا في تقرير مشترك، عن انتهاكات مروّعة ترتكب ضد نحو 7400 معتقل عراقي -معظمهم سنة- في سجن الناصرية جنوبي العراق، وأشار التقرير إلى إصدار محاكم الناصرية 297 حكمًا بالإعدام خلال الأشهر الأربعة الماضية، بناء على إفادات مخبرين سريين واعترافات انتُزعت تحت التعذيب والتهديد باغتصاب الأقارب، وحسب التقرير المشترك، فإن رئيس غرفة المحامين المنتدبين في الناصرية المحامي صالح الزهيري استقال احتجاجًا على عدم سماح محكمة الناصرية للمحامين بالانتداب للدفاع عن المتهمين، ودعت المنظمتان السلطات العراقية والمنظمات الدولية إلى تشكيل لجنة حقوقية دولية محايدة لزيارة سجن الناصرية والوقوف على الجرائم والانتهاكات المروعة التي تُرتكب ضد المعتقلين، كما طالب التقرير بإعادة النّظر في الأحكام الصادرة عن محاكم الناصرية، وإعادة تدوين أقوال المعتقلين من قبل محققين غير مسيّسين ولا طائفيين، وإطلاق سراح المعتقلين الأبرياء وتعويضهم ماديًا ومعنويًا.
أما هيئة علماء المسلمين في العراق قالت الشهر الماضي، إن القوات العراقية قتلت 16 معتقلًا بالصعق الكهربائي في سجن الناصرية بمحافظة ذي قار جنوبي البلاد، موضحة أن القوات المشرفة على السجن “زعمت” أنهم لاقوا حتفهم جراء تعرضهم بشكل جماعي للتيار الكهربائي.
وأفادت الهيئة في بيان بأن القوات الحكومية منعت أهالي الضحايا من مقابلة أبنائهم المعتقلين منذ أكثر من ستة أشهر، بحجة أنها تتخذ إجراءات مشددة لمنع هروب المعتقلين.
تم نقل المعتقلين من بغداد ومحافظاتها الأخرى إلى سجون ومحاكم تحقيق وجنايات الناصرية “ذي قار” في مخالفة جسيمة لمواد القانون العراقي الذي نص على الاختصاص المكاني للمحاكم العراقية، كما تمت إحالة قضايا معتقلين من أَهل السُّنة إِلى محاكم جميع قضاتها منتمون لأحزاب شيعية دينية، وتلك الأحزاب هي طرف من أطراف الصراعات والنزاعات الطائفية والسياسية التي يعاني منها العراق، فقضاة محكمة ذي قار كما نقلها مركز بغداد لحقوق الإنسان هم:
- القاضي (فرقد صالح هادي) رئيسُ محكمة استئنافِ ذي قار العامّ (قاضي قضاة ذي قار) وهوُ عضو قيادي بحزب الدعوة.
- القاضي (عزيز شنته الجابري) رئيس الهيئة الأولى في محكمة جنايات ذي قار (الناصرية) وهو نائب رئيس محكمة استئناف ذي قار أيضًاـ وهو عضو قيادي في حزب الدعوة ومن المقربين من رئيس الحكومة السابق نوري المالكي.
- القاضي محمد محسن الإبراهيمي رئيسِ الهيئة الثانية في محكمة جنايات ذي قار (الناصرية) عضو في حزب الدعوة.
- القاضي (ناظم حميد علك الوائلي) عضو محكمة جنايات ذي قار (الناصرية)، وهو عضو قيادي في حزب الدعوة ومن المقربين من رئيس الحكومة السابق نوري المالكي.
- القاضي (علي عبد الغني جلاب) عضو محكمة جنايات ذي قار (الناصرية) عضو في المجلس الأعلى.
- القاضي (موفق نوري جاسم) عضو محكمة جنايات ذي قار (الناصرية) عضو في حزب الدعوة.
- القاضي (رافد مركز الأعرجي) قاضي محكمة تحقيقِ ذي قار (الناصرية) والمختص بقضايا الإرهاب وهو عضو قيادي في التيار الصدري.
في الوقت الذي يُفترض فيه أَن يكون القضاء العراقي مستقلًا حاميًا ومدافعًا عن حقوق الإنسان ومحاسبًا لمنتهكيها، أصبح أداة طائفية وإجرامية تستخدم لأغراض طائفية وسياسية تُرتكب بها، أو من خلالها انتهاكات مهولة لحقوق الإنسان في العراق الذي تحول بين ليلة وضحاها بعد أن جاء أدعياء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحولوه من بلد عريق بتاريخه وحضاراته ومواقفه الوطنية، إلى بلد التدمير والتهجير والسجون التي باتت مراكز للانتقام الطائفي، ويستمر المسلسل المأساوي والمعاملة الطائفية المقيتة بحق أبرياء زُج بهم في سجون قذرة وسط إهمال متعمد وصمت مريب لمأساة حقيقية تزايدت مؤخرًا على نحو مخيف، ولا يعلم العراقيون متى تنتهي وتُطوى صفحاتها.
التقرير