جلسات الحديث الأسبوعية في باحة سجن الناصرية، جنوب العراق، عن أهمية السلوك القويم وحاجة المجتمع إلى الابتعاد عن العنف ونبذه، تحولت تدريجياً إلى غمز من بعض الشخوص الدينية ومواقفها التاريخية، ومن ثم أصبحت تركز، وبصورة صريحة، على أهمية اختيار المذهب الصحيح وموالاة أهل البيت ونبذ كل من يخالفهم، مع تلميحات من القائمين على المحاضرات إلى إمكانية الحصول على معاملة خاصة، تمنح للسجناء الذين يقومون بمراجعة أنفسهم ويعيدون التفكير في منهجهم الديني الحالي.
السجين أبو بيداء العاني، واحد من القلائل الذين أفرج عنهم أخيراً من السجن الواقع في صحراء محافظة ذي قار في الجنوب العراقي، حيث كان شاهداً على معاناة شملت الحرمان من الطعام والماء والخدمات الصحية والمساحات الكافية للنوم أو الجلوس، فضلاً عن التعذيب الممنهج والعقوبات المستمرة حتى وصل الحال إلى مساومة السجين على مذهبة ومعتقده الديني مقابل بعض الامتيازات التي توقف معاناته، وتجعلها أكثر آدمية.
الهروب من كآبة الزنازين
العاني تحدث إلى “العربي الجديد” عن إقبال السجناء على حضور جلسات الإرشاد الديني الأسبوعية؛ من أجل الهروب من ضيق وكآبة الزنازين والتمتع بلحظات نادرة من الجلوس في حديقة متوسطة باحة السجن، مخصصة لإقامة محاضرات دينية تتجاوز الساعة في أغلب الأحيان، ويتم الحديث فيها عن عموميات الأخلاق الإسلامية مع تأكيد الوسطية والابتعاد عن العنف والتطرف.
المعتقل السابق يؤكد أن منهاج الجلسات ومضمونها طرأ عليه تغيير جذري، إذ بدأ الحديث يجري وبشكل صريح عن أهمية تداركنا لأنفسنا والدخول في ولاية الخليفة علي بن أبي طالب والبراءة من بقية الخلفاء وأمهات المؤمنين، مضيفاً أن القائمين على دروس الإرشاد، وزعوا على السجناء كميات من كتب فقهاء الشيعة، ومنها (بحار الأنوار) و(الكافي) و(وسائل الشيعة) وهي جميعاً تحتوي على سب وشتم صريحين بحق الصحابة.
الجلسات الدينية، وبحسب العاني، يشرف عليها شيخ معمم يدعى ماجد الجهلاوي والشيخ عقيل باقر الركابي وشيخ توفى في الآونة الأخيرة ويدعى صادق الخاقاني، لافتاً إلى أنهم معروفون جميعاً بانتمائهم إلى حزب الفضيلة الإسلامي، والذي يفرض نفوذه وبشكل كامل على جميع مرافق وأقسام السجن المؤلف من 800 زنزانة وغرفة احتجاز تحتوي على أكثر من 7400 نزيل وجميعهم من السنّة وينتمون لمحافظات الأنبار وديالى وصلاح الدين وكركوك وعدد قليل من العاصمة بغداد.
ويؤكد العاني، وهو سجين مفرج عنه أخيراً، أن مجموعة صغيرة من المعتقلين، بدت عليهم سمات التحول وأخذوا يجتهدون في حفظ الأحاديث والروايات التي تتضمنها الكتب الموزعة عليهم، وأخذوا يرفعون الأذان الشيعي في الزنزانة الجديدة التي تم تخصصيها لهم وهي واسعة نسبياً، ويتلقون فيها وجبات طعام إضافية ومن نوعيات أفضل من بقية السجناء، فضلاً عن امتيازات أخرى حصلوا عليها ومنها تمديد أوقات التعرض للشمس والسير في الهواء الطلق، والتي تعد من أكثر احتياجات المعتقلين في السجن الواقع وسط منطقة صحراوية.
شهادة مطابقة
تروي الحاجة صبرية الدايني لـ”العربي الجديد” تفاصيل مشابهة، سمعتها من ولدها المحتجز منذ أكثر من سنة في سجن الناصرية بعد أن سمح لها مؤخراً بزيارته بعد منع دام لأكثر من تسعة أشهر، وفرضه وزير العدل السابق حسن الشمري، ولكنه لم يشمل جميع الأهل والأقارب واقتصر فقط على زيارة النساء لذويهن المعتقلين في سجن الناصرية.
المرأة ذات الـ65 عاماً والقاطنة في محافظة ديالى “شمال بغداد” التقت مؤخراً بولدها الذي أسر لها بأن الحال في السجن وصل إلى مساومة المعتقل من أجل ترك مذهبة وطائفته، فيما تتنوع الوسائل والأساليب بين الترغيب بالامتيازات والترهيب باستخدام كل وسائل الضغط من الحرمان من الطعام والشراب والنوم واستخدام الحمام، بالإضافة إلى الاستخدام المركز للدروس والمحاضرات التي تعمد إلى القيام بعملية غسل دماغ جماعي للسجناء.
وتنقل الدايني عن ولدها المعتقل بتهم تعرف بمادة 4 إرهاب من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لعام 2005، على خلفية حراسته لمسجد في ديالى، أن الإرشاد الديني الوحيد الموجود في السجن هو خاص بالمذهب الشيعي، فيما يمنع تداول أي كتاب سنّي داخل السجن، مبينةً أن عدداً قليلاً من زملاء ولدها تم نقلهم مؤخراً إلى مكان منعزل بعد إعلانهم عن التحول إلى المذهب الشيعي ومواظبتهم على دراسة الكتب الفقهية والأحاديث، حتى إن أحدهم بدأ يمارس دور المساعد للشيخ الذي يقوم بإعطاء الدروس الإرشادية للسجناء.
الدايني تؤكد أن ولدها وجميع نزلاء سجن الناصرية يتم إجبارهم بشكل جماعي على إحياء الطقوس والمناسبات الشيعية ومنها الاحتفال بولادة أئمة الشيعة أو “فرحة الزهراء” وهو احتفال خاص بذكرة وفاة الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكذلك الحال في ممارسة شعائر الحزن في عاشوراء والأول من شهر محرم ومناسبات أخرى.
صعوبة في توفير وعاظ سنّة
من جهته رفض مصدر، تحفظ على نشر اسمه، في مكتب وزير العدل العراقي حيدر الزاملي أي حديث عن تفرقة طائفية أو تمييز بين النزلاء في السجون والمعتقلات العراقية، ولكنه يقر في الوقت نفسه بأن وقوع سجن الناصرية في منطقة ذات أغلبية سكانية شيعية تجعل من الصعب توفير مرشدين ووعاظ ومعلمي دين للسجناء من المذهب السنّي.
المصدر قال لـ”العربي الجديد”: “السجن المذكور يخضع لمراقبة دائمة من الوزارة، فضلاً عن زيارات مستمرة لفرق مراقبة وتقصي الحقائق بشأن أوضاع السجناء”، مضيفاً أنهم حريصون على تشخيص الأخطاء ومعالجتها بشكل فوري، وأن أغلب التقارير الواردة إليهم إيجابية ولا تحتوي على موضوع إرغام السجين على تغيير معتقده أو المساس بمذهبه وطائفته.
ويقر المصدر (رفض ذكر اسمه لعدم تخويله بالحديث لوسائل الإعلام) بحصول سلبيات وتقصير في الفترة الماضية، “قبل تسلم الوزير الحالي لمنصبه”، على حد قوله، مشيراً إلى أن كوادر الوزارة تعمل حالياً على تلافي وتصحيح أخطاء الماضي والنهوض بجملة عمل وزارة العدل ومنها قطاع السجون والمعتقلات.
حقوق الإنسان: أوضاع السجناء مروعة
وضع مدير مركز بغداد لحقوق الإنسان مهند العيساوي، تقريراً تفصيلياً عن أوضاع سجن الناصرية ويحتوي على حقائق مغايرة تماماً لما جاء في حديث المصدر المقرب من الوزير الزاملي، وكشف العيساوي عن حقائق مروعة بشأن أوضاع السجناء الذين قال إن كل 10 منهم يحشرون في زنزانة مخصصة لاستيعاب اثنين فقط، وإن أعمال التعذيب منتشرة في السجن، والذي من المفترض أن يكون مكان إيداع للسجناء بعد انتهاء مرحلة التحقيق التي مروا بها مقدماً.
الناشط العيساوي أطلع “العربي الجديد” على نسخة من التقرير الذي تم العمل عليه لمدة شهرين بالتعاون مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، واعتمد على لقاءات وشهادات مسجلة لسجناء ومصادر عاملة في السجن وأكدت جميعها أن السجين يحصل على أقل من سدس حاجته اليومية للماء، وأن الطعام غالباً ما يكون منتهي الصلاحية، الأمر الذي تسبب بحالات تسمّم كثيرة، بينما يفتقر السجناء إلى الرعاية الصحية بمعناها الحقيقي، وأن أقصى ما يمكن الحصول عليه داخل أسوار السجن هو بضعة أقراص مهدئة ومسكنة للأوجاع ولا شيء غيرها أبداً.
وبشأن موضوع الإكراه على تغيير المعتقد والمذهب وإرغام السجين على اللقاء برجل دين مخالف لمذهبة، يؤكد العيساوي أن قواعد معاملة السجناء التي أوصت بها الأمم المتحدة في جنيف عام 1955 تنصّ صراحة على السماح للسجين بأداء فروضه الدينية وبحضور الصلوات المقامة في السجن، وبحيازة كتب الشعائر والتربية الدينية التي تأخذ بها طائفته، بالإضافة إلى مادة تنص على تعيين رجال دين يمثلون معتقد السجناء ويقومون بزيارتهم بشكل منتظم.
مسؤول المركز المختص برصد الانتهاكات في السجون العراقية أكد أن العاملين في سجن الناصرية ينالون وبشكل منتظم من جميع مقدسات وثوابت السجناء الدينية، بما فيها سب وشتم الصحابة وأمهات المؤمنين، فضلاً عن الرموز السياسية والعشائرية، مشدداً على أن أبسط الحقوق الدينية وهي رفع الأذان السنّي تعد من الممنوعات المحرمات داخل السجن وتتم معاقبة من يقوم بها.
نشطاء عراقيون نشروا مؤخراً على موقع التواصل الاجتماعي (يوتيوب) مقطع فيديو مصوراً داخل سجن الناصرية ويظهر عملية تعذيب المعتقلين السنّة بسبب أسمائهم والعشائر والمناطق التي ينتمون لها، فيما يحث مسؤول فريق التعذيب ويدعى (سيد حيدر) زملاءه على اغتصاب أحد السجناء الذي تم إخفاء وجهه.
ويصور مقطع الفيديو الذي تبلغ مدته خمس دقائق مجموعة حراس ينهالون بالضرب على سجين اسمه عمر، ويسكن في مدينة الفلوجة بمحافظة الأنبار ويطالبونه بسبّ الخليفة أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) وأم المؤمنين عائشة، بينما يؤكد ناشرو الفيديو أن أحد السجناء الظاهرين في المقطع، (والذي تداوله العراقيون بكثرة)، توفى لاحقاً نتيجة مضاعفات صحية ناجمة عن قساوة التعذيب في سجن الناصرية (الطائفي).
العربي الجديد