من قبل أن يولد تنظيم الدولة الإسلامية أو تظهر جبهة النصرة أو “يحرر” الثائرون السوريون شيئا من أراضيهم من سيطرة النظام، حينما كانت المعادلة لا تتضمن إلا النظام السوري شاهرا سلاحه وأصوات الشارع رافعة مطالبها؛ في تلك الأجواء وتحديدا يوم 6 سبتمبر/أيلول 2011، اعتقلت المخابرات السورية محمد الشربجي وأجبرته أن يتصل بأخيه يحيى ليخبره أنه مصاب، ويطلب منه أن يسرع إلى إسعافه.
بلهفة الأخ القلق على أخيه، انطلق الثائران الناشطان في مدينة داريا: يحيى وصديقه غياث مطر -المتواريان عن الأنظار وقتئذ هربا من يد النظام الباطشة- لنجدة محمد، قبل أن يقعا في الكمين المنصوب لهما، ويعلما أنهم جميعا باتوا بحاجة ماسة إلى النجدة، إلى بصيص الأمل الذي لن يسعفهم به أحد حتى سفراء أميركا وفرنسا وألمانيا -وغيرهم- الذين حضروا مجلس عزاء غياث بعد أيام.
عُرف غياث مطر (17 عاما) بمبادرته لتقديم الماء والورود لعناصر الأمن وقوات النظام السوري أثناء المظاهرات التي عمت البلاد عام 2011، لكنهم كافؤوه بأن أعادوا جثمانه إلى أهله مليئا بالكدمات مخترقا بعيار ناري يوم 10 سبتمبر/أيلول 2011، بعد أربعة أيام من اعتقاله مع صاحبيه، أما يحيى ومحمد (المعروف بمعن) فلم يعرف مصيرهما إلا بعد نحو سبع سنوات من اختطافهما.
سجلات مدنية
أثناء إجرائهم معاملة روتينية لاستخراج قيد عائلي في دائرة السجل المدني، وهو ما بات الخطة الشائعة لدى أهالي المخفيين قسريا حتى يعرفوا مصير أبنائهم؛ قال الموظف لأهل يحيى الشربجي إن ابنهم مقيّد في السجلات المدنية: متوفى، وإن تاريخ وفاته المسجل هو 15 يناير/كانون الثاني 2013، دون أن تحتوي السجلات أي تفاصيل عن سبب الوفاة أو مكانها.
لم تتوقف صدمة عائلة الشربجي هنا، فما لبثت السجلات المدنية أن كشفت لهم أيضا وفاة أخيه محمد يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2013؛ وهو ما تكتم عليه النظام وسرّبه خلسة إلى السجلات المدنية كمن يحاول إخفاء دليل إدانته.
إذا كانت قضية اللاجئين السوريين تؤرق العالم بأسره حتى بات التعامل معهم أحد أهم الملفات الانتخابية في أكثر من دولة، فإن قضية المخفيين في سجون نظام الأسد لا شك هي أكثر إيلاما رغم ما يلفها من تعتيم سياسي وإعلامي لا يقل ظلمة عن عتمة السجون التي يغيب فيها ما يزيد على 215 ألف معتقل سوري، بحسب تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وبغية تفادي أي متابعات دولية جراء الكشف عن مصير الآلاف من المعتقلين دون محاكمة، بل دون توجيه أي اتهام؛ يبدو أن النظام بات يسرّب قوائم بأسماء من قضوا في غياهب سجونه إلى السجلات المدنية التي بات المكلومون يقصدونها للتحقق من مصير فلذات أكبادهم.
يحيى ومحمد الشربجي كانا من بين نحو ألف من أبناء داريا، أرسل النظام قائمة بأسمائهم إلى السجلات المدنية التي أشارت مصادر فيها إلى وجود قائمة ثانية يتوقع الكشف عنها قريبا من معتقلي المدينة الذين تقدر أعدادهم في سجون النظام بحوالي 3400، بحسب تنسيقية أهالي داريا في الشتات.
محاكمات صورية
ومن هؤلاء الضحايا من قضى تحت التعذيب أو حكم عليه بالإعدام -في محاكمات صورية- بسجن صيدنايا، بحسب ما كشفت عنه منظمة العفو الدولية عام 2017 في تقريرها “المسلخ البشري.. عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا”.
ولم تكن داريا وحدها التي انكشف فيها ما يحاول النظام التستر عليه، بل تبين أن سجلات الأحوال المدنية في مدن سورية أخرى تلقت قوائم بأسماء مئات قضوا في السجون، كثير منهم ممن يعرفون بـ”جيل السلمية”، أي أنهم اعتقلوا بداية الثورة السورية قبل ظهور الجيش الحر أو مجموعات المعارضة المسلحة.
فقد بينت شبكة شام الإخبارية أن القوائم تضمنت أسماء 750 معتقلا من محافظة الحسكة، و550 من حلب، و480 من تل كلخ في حمص، و450 من معضمية الشام بريف دمشق، و30 من يبرود بريف دمشق، فضلا عن ألف من داريا، وعشرات المخفيين قسرا في سجون النظام صدرت بطاقات وفاة لهم مؤخرا تؤكد أنهم توفوا بأزمات قلبية.
كما لم يكن ضحايا سجون الأسد من السوريين فقط، حيث ذكرت مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا أنها وثقت مقتل 533 فلسطينيا -بينهم نساء وأطفال- تحت التعذيب. وأشارت المجموعة إلى أن الأجهزة الأمنية السورية ما زالت تتكتم على مصير أكثر من 1682 معتقلا فلسطينيا في سجونها.
“هذا الوطن لا يكون وطنا إلا بوجود مواطنين”، هكذا كان يرى يحيى الشربجي الوطن في كلمة مصورة له بداية الثورة؛ لكن يبدو أن رؤيته هذه خالفت رؤية رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي استنجد بالإيرانيين والروس ليخلصوه ممن يخالف رؤيته.
المصدر : الجزيرة