الحرب السورية انتهت، وأميركا خسرت

الحرب السورية انتهت، وأميركا خسرت

في وقت سابق من هذا الشهر، رفعت قوات النظام السوري علمها فوق مدينة درعا الجنوبية واحتفلت بذلك. وعلى الرغم من أن هناك المزيد من سفك الدماء القادم على الطريق، فقد كان من الصعب تفويت الرمزية التي ينطوي عليها هذا الحدث. لقد تم أخيراً سحق الانتفاضة التي بدأت في تلك المدينة بالذات يوم 6 آذار (مارس) 2011، كما أن الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد وزعزعت استقرار أجزاء من الشرق الأوسط وأوروبا أيضاً ستنتهي عاجلاً وليس آجلاً. لقد انتصر بشار الأسد، الرجل الذي كان من المفترض أن يسقط في “مسألة وقت”، بمساعدة من روسيا وإيران وحزب الله، على شعبه نفسه.

في الأثناء، تبدو واشنطن مشغولة للغاية في هذه الأيام المحمومة بالتفكير في حقيقة أن هناك عدداً من السوريين اليوم أقل بنحو 500.000 مما كانوا عيه عندما كتب مجموعة من الأولاد بطلاء الرش عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام” على مبانٍ في درعا منذ أكثر من سبع سنوات. والآن وقد تقرر مصير الصراع في سورية، أصبح من الجدير التفكير في غرض ومكان الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الجديد. والجزء الأول من العمل هو التخلص من المبادئ الفائضة التي ظلت قابعة منذ زمن بعيد في قلب السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، وساهمت في إرباكها وشلها، في سورية وما وراءها أيضاً.

ربما لا يوجد أي شخص في دهاليز السياسة في واشنطن لم يتم إخباره في مرحلة ما من حياته المهنية بمخاطر التفكير عن طريق القياس. لكن هذا لا يعني أنه لم يتم الاسترشاد بمثل هذه الدروس بشكل منتظم. وقد جاءت الانتفاضة السورية في وقت خيالي في الشرق الأوسط، عندما بدا أن الحرية تنبثق في كل مكان. وبدا تجسيد قوة الشعب الذي بدأ في درعا -بعد وقت قصير من سقوط الزعماء منذ فترة طويلة في تونس ومصر- مُحرِّكاً للمشاعر. كما أنه جعل حكم الدبلوماسيين وصناع القرار والمحللين والصحفيين غائماً، وجعلهم غير قادرين على تمييز الفروقات بين أمثال الأسد في المنطقة وبين أمثال بن علي، أو بين هيكلية النظام السوري وبنية نظام الحكم المصري.

ولأن المجتمع السياسي لم يكن يتوقع أن يستمر الزعيم السوري طويلاً في السلطة، فقد تبين لاحقاً أن هذا المجتمع كان غير مستعد ولا مُلهم إلى حد كبير بينما تابع الأسد تنفيذ إستراتيجيته الأكثر وضوحاً وفعالية بشكل صارخ: عسكرة الانتفاضة. وبمرور الوقت، جعلت الميليشيات المتنافسة في سورية والجهاديون والقوى الإقليمية، بالإضافة إلى تدخل روسيا، من الصعب تحديد المصالح الأميركية في الصراع. وهكذا، أدانت واشنطن إراقة الدماء، وأرسلت المساعدات إلى اللاجئين، وقدمت مساعدة فاترة للثوار الذين تم تدقيق ملفاتهم، وقصفت “داعش”، لكنها بقيت بخلاف ذلك خارج الصراع الأهلي السوري.

حتى لا يعتقد أحد بأن هذه سياسة خاصة بالرئيس الأميركي باراك أوباما وهدفه المتمثل في الخروج من صراعات الشرق الأوسط وليس الدخول فيها، فإن سياسات خليفته لم تكن مختلفة بشكل كبير، سوى أن الرئيس دونالد ترامب صريح بشأن ترك سورية لموسكو بعد تدمير “الدولة الإسلامية”. وبينما استمرت الجثث في التراكم، كان كل ما استطاعت واشنطن إتقانه هو التعبير عن القلق من مشكلة صعبة أخرى. وبطبيعة الحال، تختلف سورية عن رواندا، ودارفور، وسريبرينيتشا -بما يكفي لاقتراح أن خلاف ذلك سوف يكون من نوع محاولة الفهم عن طريق المُقايسة- لكنها كانت حالة أخرى من حالات القتل هائل النطاق، والتي أصابت واشنطن بالشلل. ويبدو أنه حتى أولئك الذين يتمتعون بمعرفة جيدة بالتاريخ، لا يمكنهم تجنب تكراره.

كان العديد من المحللين وصانعي السياسة الذين فضلوا بقاء الولايات المتحدة خارج سورية أو تقليص دورها فيها قد وصلوا إلى هذا الموقف بنزاهة. فقد نظروا في غزو العراق في العام 2003، وشجبوا الطريقة التي زعزع بها استقرار المنطقة، ومكَّن إيران، وألحق أضراراً بالعلاقات مع حلفاء واشنطن، وأذكى عنف المتطرفين، مما أدى إلى تقويض الموقف الأميركي في المنطقة. ويبدو أنه فات على نفس المجموعة إدراك حقيقة أن تقاعس الولايات المتحدة في سورية فعل الشيء نفسه: فقد ساهم في عدم الاستقرار الإقليمي، ومكَّن إيران، وأفسد العلاقات مع الأصدقاء الإقليميين، وعزز الجماعات الإرهابية عبر الوطنية. وربما كان قرار الابتعاد مع ذلك قراراً سياسياً جيداً، ولكنه جاء بتكلفة ملحوظة على حساب موقف واشنطن في الشرق الأوسط.

يشكل تضاؤل النفوذ والتأثير الأميركيين الذي كشفته حالة سورية وسرَّعته على حد سواء، تطوراً لم يكن مجتمع السياسة قد تأمله بما يكفي، لأنه لم يكن من المفترض أن يحدث. وبكل المقاييس التقليدية للقوة، تبقى الولايات المتحدة، بعد كل شيء، بلا نظير. لكن القوة مفيدة فقط عند تطبيقها، وقد أثبتت واشنطن أنها غير قادرة على -أو غير راغبة في تشكيل الأحداث في الشرق الأوسط كما كانت تفعل في الماضي -ما يعني القول بأنها تخلت عن نفوذها هناك. وقد يكون هذا تطوراً إيجابياً. فلا أحد يريد تكراراً للعراق. وفي مكان واشنطن، تدخلت موسكو لتعرض نفسها كشريك أفضل وأكثر كفاءة لدول الشرق الأوسط. ولم يكن هناك الكثير من المتقدمين لقبول العرض من غير السوريين، ومع ذلك يبدو أن هناك الكثير من الاهتمام، وكان الصراع في سورية هو السبب الرئيسي في ذلك.

ولنقارن الطريقة التي جاء بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنقاذ حليف في أزمة -الأسد- بالطريقة التي يتصور حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة أن أوباما ساعد بها في إزاحة الرئيس المصري حسني مبارك من منصبه بعد 30 عاماً كان قد أنفق الكثير منها في أداء الخدمات لواشنطن في المنطقة. وقد لا يحب المصريون والسعوديون والإماراتيون والإسرائيليون وغيرهم الأسد كثيراً، لكن رد فعل روسيا الأساسي والقوي للحيلولة دون سقوط الدكتاتور السوري، ثم جهود موسكو لجعل الأسد ينطوي على إرادة تحقيق ما يبدو انتصاراً، خلقت انطباعاً معيناً لديهم. وقد أصبحت سورية الآن هي المحور وحجر الأساس لاستراتيجية روسيا الرامية إلى إعادة تأكيد نفسها كقوة عالمية، وأصبح نفوذها المتجدد في الشرق الأوسط يمتد من دمشق شرقاً، وعبر حكومة إقليم كردستان إلى إيران، ومن العاصمة السورية جنوباً إلى مصر قبل أن ينعطف غرباً إلى ليبيا.

ما تزال إسرائيل وتركيا ودول الخليج تتطلع إلى واشنطن من أجل القيادة، لكنها بدأت أيضاً بطلب المساعدة في تأمين مصالحها من الكرملين. وقد أصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي حاضراً متكرراً إلى جوار بوتين؛ وأصبح الرئيس التركي ونظيره الروسي، إلى جانب قادة إيران، شركاء في سورية؛ وقام الملك سلمان بأول زيارة لملك سعودي إلى موسكو في تشرين الأول (أكتوبر) في العام 2017؛ ويعتقد الإماراتيون أن الروس يجب أن يكونوا “على الطاولة” في المناقشات ذات الأهمية الإقليمية. وكانت الحقبة التي حددت فيها الولايات المتحدة قواعد اللعبة في الشرق الأوسط وحافظت على نظام إقليمي جعل من ممارسة القوة الأميركية أسهل وأقل تكلفة، قد استمرت 25 عاماً. لكنها انتهت الآن.

وأخيراً، يكشف الوضع في سورية عن تضارب الأميركيين العميق تجاه الشرق الأوسط، والأهمية المتراجعة لما كان المسؤولون الأميركيون يعتبرونه منذ وقت طويل مصالح واشنطن هناك: النفط، وإسرائيل، وهيمنة الولايات المتحدة على المنطقة لضمان هذين الشأنين الآخرَين. ويتساءل الأميركيون لماذا تنتشر القواعد العسكرية الأميركية في الخليج الفارسي إذا كانت الولايات المتحدة مهيأة لتصبح أكبر منتج للنفط في العالم. وبعد حربين غير حاسمتين في غضون 17 سنة، لا يمكن لأحد أن يقدم للأميركيين سبباً مقنعاً بأن نظام الأسد هو مشكلتهم. وما تزال إسرائيل تحظى بشعبية، لكنها أثبتت في أكثر من 70 سنة أنها قادرة على تدبر أمورها بنفسها. وقد ترشح أوباما وترامب للرئاسة على أساس برامج خفض النفقات وإعادة التموضع، وفازا. ويجيء الجمود حول سورية نتيجة لدوافع مجتمع السياسة لفعل شيء ما، ثم تبني السياسات التي تجعل من فعله مستحيلاً.

ربما ستكون هناك الآن، بعد أن فاز فريق الأسد ـ بوتين-خامنئي في الصراع السوري، فرصة للأميركيين لمناقشة ما هو المهم في الشرق الأوسط ولماذا. ولن يكون الأمر سهلاً، مع ذلك. فالكونغرس مستقطب ومشلول. ويتم تحديد نهج إدارة ترامب تجاه المنطقة حسب غرائز الرئيس. وقد واصل سياسات عهد أوباما المتعلقة بمحاربة الجماعات المتطرفة، لكنه بعد ذلك افترق عن سياسة أسلافه الطويلة وقام بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس. كما خرق ترامب الصفقة النووية الإيرانية، على الرغم من أنه لم يفعل الكثير منذ ذلك الحين تجاه إيران باستثناء الكلام القوي. وهو يريد مغادرة سورية “في القريب العاجل”، حتى عندما يتعهد مستشاره للأمن القومي بالبقاء فيها طالما بقيت إيران هناك.

على الرغم من هذا التنافر، وبسبب هذا التناقض، حان الوقت لإجراء نقاش مستفيض حول الشرق الأوسط. وهناك حجة مقنعة ينبغي الاستشهاد بها، هي أن المصالح الأميركية تتطلب دوراً أميركياً نشطاً في المنطقة؛ وهناك حجة مقنعة بالقدر نفسه هي أن بالإمكان تأمين أهداف الولايات المتحدة من دون الحروب، ومشاريع الهندسة الاجتماعية، وعمليات السلام، والاجتماعات في جنيف. وفيما بين ذلك، ثمة ما تبدو عليه السياسة الأميركية في الشرق الأوسط الآن: متناقضة وقاصرة ذاتياً. وفي ظل هذه الظروف، سوف تستمر سورية وروسيا وإيران في الفوز.

ستيفن إيه. كوك

الغد