في15أيار/مايو عام 1948م، أعلن رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية ديفيد بن غوريون (1935م-1948م)، الذي أصبح بعد فترة وجيزة رئيس لوزراء إسرائيل ما بين عامي (1948م-1953م) وعامي (1955م-1963م). من مبنى بلدية القدس قيام دولة إسرائيل، وقد أصطلح على هذا القيام في الذاكرة الفلسطينية والعربية بالنكبة. وبمجرد ذلك الإعلان توالت الاعترافات الدولية بها، وخاصة من قبل الدولتين العظمتين في ذلك، وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم من قساوة اعترافهما بها، إلا أنه لم يشكل أي صدمة لدى الرأي العام العربي والإسلامي، لكن الصدمة تشكلت عندما أقدمت تركيا كأول دولة إسلامية بالاعتراف بإسرائيل كدولة في 28 آذار/مارس عام1949م، حيث تم تبادل السفراء بين الدولتين لأول مرة في 1تشرين الثاني/نوفمبر عام1950م. ومع الذكرى السابعة والستون لها، نتساءل عن الأسباب التاريخية التي دفعت بالدولة التركية للاعتراف بها، وما أهميته بالنسبة لإسرائيل؟
في 29تشرين الثاني/نوفمبر عام 1947م، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار رقم 118، تضمن القرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، الأولى عربية والثانية يهودية. وقد صوتت تركيا والدول العربية ضد قرار التقسيم، ولم يمنع التوتر في العلاقات السورية التركية في ذلك الوقت، أن قام رئيس جمهورية سورية الأسبق شكري القوتلي والذي حكم سورية ما بين عامي(1943م/1949م) وعامي(1955م/1958م)، بإرسال “رسالة شكر” إلى نظيره التركي الأسبق عصمت اينونو (1938م-1950م). ثمّن فيها الموقف التركي المرحب به من قبل الدول العربية. كما أظهرت الصحافة العربية نفس الترحيب.
ولأن السمة البارزة في العلاقات الدولية التغير والتحول، لذا لم تدم حالة التوافق التركي العربي الرافض لقرار التقسيم. إذ تم انتخاب تركيا عضواً في لجنة التوفيق الفلسطينية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، بموجب الفقرة الثانية من قرار رقم 194 الصادر بتاريخ 11كانون الأول/ديسمبر عام 1948م، ذلك القرار الذي صوتت تركيا معه، في حين صوتت الدول العربية (مصر، السعودية لبنان، سورية، العراق، اليمن) ضده. ولقد شكل انضمام تركيا إلى تلك اللجنة بداية الافتراق بينها وبين الدول العربية .
ومن المهام التي كانت ملقاة على عاتق اللجنة بموجب الفقرة الثانية من القرار رقم 186 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 أيار/مايو عام 1948م حماية الأماكن المقدسة والمواقع الدينية في فلسطين المحتلة، وإيجاد تسوية سلمية مستقبلية للوضع فيها. وكانت عضوية اللجنة بحد ذاتها تقتضي اتخاذ موقف على حساب وحدة فلسطين التاريخية. وفي هذا السياق، اعترفت تركيا بالكيان الصهيوني “كدولة” في 28 آذار 1949م.
وقد تنوعت التحليلات السياسية بشأن اعتراف تركيا بإسرائيل إلى اتجاهين: الأول، يعزو الاعتراف لعوامل داخلية منها: سعي النخبة العلمانية الكمالية الحاكمة في تركيا للانتقام من العرب بسبب تحالفهم مع المملكة المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى. لذا كان الاعتراف مدخلا لها، لاتخاذ بعض المواقف العدائية من الدول العربية منها على سبيل المثال، في صيف عام 1951م، وقفت تركيا إلى جانب الدول الغربية المحتجة ضد قرار مصر منع مرور السفن الإسرائيلية عبر قناة السويس. كما ايدت تركيا فرنسا في الجمعية العامة للأمم المتحدة حينما صوتت في 6 كانون الأول/ديسمبر عام 1957م ضد مشروع قرار استقلال الجزائر.
أما الاتجاه الثاني، يرجع الاعتراف إلى عوامل خارجية، بروز الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى مهددة لاستقرار تركيا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقبل نهاية تلك الحرب بأشهر معدودة ألغى الاتحاد السوفييتي في 19 آذار/مارس 1945م، معاهدة الصداقة والحياد التي كان قد أبرمها مع تركيا في 17 كانون الأول/ديسمبر عام 1925م، واشترط لتوقيع معاهدة جديدة معها أن تقوم بإعادة إقليمي “قارص وأردهان” اللذين كان قد تخلى عنهما بموجب معاهدة الصلح مع تركيا في عام 1921م ، وطالب بالحصول على قواعد عسكرية في منطقة المضايق وتعديل معاهدة “مونترو” التي دخلت حيز التنفيذ في 9 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1936م، لتحدد نظام المرور عبر مضائق البحر الأسود. كما طالب السوفييت أيضاً بعقد معاهدة دولية للدفاع عن البحر الأسود.
ولمواجهة ” لعنة الجغرافيا” ارتبطت تركيا بجار تقليدي يهدد أمنها من الجهة الشمالية وهو الاتحاد السوفييتي، خاصة بعد خروجه منتصراً من الحرب العالمية الثانية، وسعيه لمد مضامين قوته إلى الشرق الأوسط من ضفاف البحر المتوسط إلى الخليج العربي. وكانت تركيا كما الدولة العثمانية في الماضي، عقبة أمام التمدد الروسي فالسوفييتي. لذا بحث الاتراك بعد الحرب العالمية الأولى عن حلفاء لهم لمواجهة الاتحاد السوفييتي فكانت المملكة المتحدة وفرنسا. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت الدولة الصاعدة هي الولايات المتحدة الأمريكية، ولتحالف تركيا معها لضمان أمنها لابد من العبور من بوابة الاعتراف بإسرائيل، حيث ترجمت الدول الغربية هذا الاعتراف بشكل عملي، إذ قبلت تركيا بالمجلس الأوروبي في أغسطس عام 1949م، وانضمت إلى حلف الشمال الأطلسي في شباط/فبراير عام 1952م، ووقعت مع دول السوق الأوروبية المشتركة معاهدة سميت بـ” معاهدة الزمالة” أو “المشاركة” في 12 أيلول/سبتمبر عام 1963م. ويرى أنصار هذا الاتجاه، بأن انضمام تركيا لمنظومة الدول الغربية قد حقق لها جملة من الأهداف، منها: ضمنت تركيا بانضمامها لحلف شمال الأطلسي حمايتها من التهديدات السوفييتية، فالهدف من إنشائه هو الدفاع عن المصالح السياسية والاقتصادية للدول الأعضاء فيه، وذلك عن طريق مواجهة الاتحاد السوفييتي، وقد حققت رغبتها في الاندماج بالعالم الغربي من خلال بناء دولة عصرية على غرار الدول الأوروبية، وفتح الطريق أمامها للدخول إلى الأسواق والمؤسسات المالية العالمية، وكسبها الدعم اللوبي الصهيوني العالمي ضد اللوبيين الأرمني واليوناني أخيراً وجدت النخبة الكمالية العلمانية الحاكمة التركية في الاعتراف بإسرائيل فرصة للعب دور ميزان القوى بين الدول العربية وذلك الكيان.
ومما تقدم يمكن القول أنه لا يظهر الاتجاه الأول تماسكه أمام الثاني بشأن اعتراف تركيا بإسرائيل، لذا نستبعد فرضية الانتقام من عملية الاعتراف، لأن إذا كانت هذه الفرضية حاضرة بالفعل- آنذاك- فلماذا صوتت تركيا في الأساس ضد قرار تقسيم فلسطين؟! وبالرجوع للمدة الواقعة ما بين رفض قرار التقسيم، والاعتراف بإسرائيل، نلاحظ عدم وجود تغير نوعي على الهيئة الحاكمة في تركيا سواء في رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء، فالحزب الحاكم الذي رفض قرار التقسيم هو ذاته الذي اعترف بها، وهو حزب الشعب الجمهوري.
لذا نرى أن المصالح العليا للدولة التركية هي السبب في الاعتراف، كما أن المصالح بشقيها السياسي والاقتصادي مع الدول العربية ولا سيما النفطية منها هي التي دفعت تركيا للوقوف إلى جانب بعض القضايا العربية، منها على سبيل المثال، تصويتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1975م، على اعتبار الحركة الصهيونية شكلا من أشكال التمييز العنصري، واعترافها في العام 1979م، على أن منظمة التحرير الفلسطينية ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني طبقاً لمقررات قمة الرباط عام 1974م. وعدم اعترافها عام 1980م، بقرار إسرائيل بشأن اتخاذ القدس عاصمة للدولة العبرية، وخفضت تمثيلها في سفارتها بتل أبيب إلى درجة سكرتير ثان وتصويتها ضمن 118دولة لصالح القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11كانون الأول/ ديسمبرعام1980م، بشأن عدم الاعتراف بمشروعية كافة القرارات والتدابير الإسرائيلية المتخذة لتغيير وضع الأراضي المحتلة.
كما أدانت قصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي في حزيران/يونيو عام 1981م، وتصويتها لصالح القرار الصادر عن الجمعية العامة في 17كانون الأول /ديسمبر1981م، بشأن عدم الاعتراف بمشروعية القرار الإسرائيلي المتخذ في 14كانون الأول/ديسمبر عام1981م، بضم هضبة الجولان السورية ووقف رحلاتها الجوية إلى إسرائيل عام 1982 م. واتخاذ موقف إيجابي من الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في 8كانون الأول/ ديسمبر عام 1987م، وإصدارها العديد من البيانات الرسمية التي أعربت عن شجبها للقمع الذي تمارسه إسرائيل، كما أعربت عن دعمها لحق الفلسطينيين في “تقرير المصير”.
أما عن أهمية قرار اعتراف تركيا بالنسبة لإسرائيل، يمكن القول إنه كان مدخلاً لها لإقامة علاقات معها ترتكز على سياسة كسر الحصار والعزلة التي فرضها العرب عليها منذ نشأتها، وهي السياسة التي عرفت باسم “استراتيجية تحالف الأطراف”، وبمقتضاها سعت إسرائيل لعقد صداقات وعلاقات استخبارية وأمنية مع الدول المجاورة بأعدائها العرب مثل إيران وتركيا. ووفقًا لهذه النظرية كانت تركيا تمثل أهمية خاصة لإسرائيل لكونها دولة مسلمة، ومن شأن تمكن إسرائيل من إقامة علاقات جيدة معها كسر المحاججة العربية بأن إسرائيل دولة غريبة في بيئة تهيمن عليها الثقافة العربية الإسلامية، فتركيا ليست عربية لكنها مسلمة، كما أن الأقليات العرقية والدينية في البيئة الإقليمية تنفي تجانسها وتبطل حجج عدم أحقية إسرائيل في التواجد داخلها، وأخيرًا فإن تحييد العامل الديني في الصراع مع العرب وأغلبهم مسلمون شكل بدوره أهمية كبرى في إطار منع عملية استغلال الدين في توسيع الحشد المواجه لإسرائيل وهو هدف ظل باقيا حتى وقت قريب حيث كتب “أفريم عنبار” أحد الباحثين الإسرائيليين عام 2002م قائلًا” إن لإسرائيل مصلحة جلية في عقد روابط ودية مع دول ذات أغلبية إسلامية، وبالتحديد لأن الأعداء العرب يحاولون إدراج العامل الإسلامي في صراعهم ضد الدولة اليهودية، ومن ثم على إسرائيل أن تحاول تمييع البعد الديني للنزاع العربي الإسرائيلي من خلال تنمية علاقات طيبة مع دول مثل تركيا”.
سبب آخر جعل إسرائيل تحرص على إقامة علاقات جيدة مع تركيا منذ عام 1949م، هو الجوار الجغرافي للعراق وسوريا، والأخيرة تقع على جبهة المواجهة مباشرة مع إسرائيل وتمثل المركز الفكري للقومية العربية التي اعتبرت الصراع مع إسرائيل صراع وجود لا حدود. ولم تجد إسرائيل صعوبة في جذب تركيا لإقامة علاقات معها نظراً لأن تركيا بدورها كانت تنظر إلى سورية والعراق على أنهما مصدرا تهديد لأمنها القومي سواء بسبب التنازع على مياه نهر الفرات أو لمطالب سوريا في إقليم الإسكندرونة التركي الذي تعتبره جزءاً من أراضيها، أو للتحركات التي تقوم بها الجماعات الكردية المتمردة في جنوبي تركيا واتخاذها سورية ملجأ آمنا لشن هجماتها على مواقع الجيش التركي في المنطقة.
وبسبب هذه المخاوف المشتركة تمكنت إسرائيل من عقد اتفاقات سرية للتعاون الاستخباراتي والعسكري، بدأت عملياً قبل ذلك بسنوات وبالتحديد في عام 1958 م، عندما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفيد بن جوريون مع نظيره التركي، عدنان مندريس (1950- 1960م)، سرًا لتوقيع اتفاقية التعاون المشترك. والواقع أن إسرائيل لم تحاول الضغط على تركيا لتوسيع أفق التعاون بينهما أو جعله تعاونا معلنا لأنها أدركت مدى العبء الملقى على الحكومات التركية ذات التوجه العلماني، والتي لا تجد في العلاقات مع إسرائيل غضاضة. في مقابل الشعب التركي الذي وإن حمل داخله مشاعر عدم ارتياح تجاه العرب بسبب إسهامهم في إسقاط الدولة العثمانية إبان وعقب الحرب العالمية الأولى، إن اعتزازه بهويته الإسلامية وعدم تمثله الكامل للثقافة العلمانية ومعاناته من أزمة هوية حادة جعل من الصعب على أي حكومة تركية أن تسوق له علاقات قوية وواسعة مع إسرائيل، التي تقدم نفسها بنفسها بوصفها وطن الشعب اليهودي. وكان لهذا الإدراك من جانب إسرائيل أثره في جعل المواجهة بين النخبة العلمانية الحاكمة في تركيا وبين التيارات الشعبية الرافضة لسياسة العلمنة هناك أقل حدة، حيث وضعت المشاعر الدينية في حجمها المقبول ومنعت بالطبع تعرض العلاقات التركية الإسرائيلية للانهيار.
ومنذ إن اعترفت تركيا بإسرائيل في 28آذار/مارس عام 1949م، إن أن العلاقات بين الدولتين لم تسير على نسق واحد، وهنا يمكن التمييز بين أربع مراحل رئيسة وذلك على النحو التالي:
المرحلة الأولى: والتي شهدت فيها العلاقات التركية الإسرائيلية تطورات ملموسة في موازاة تطور علاقاتها بالغرب من ناحية، وتوتر علاقاتها بالدول العربية من ناحية أخرى وذلك فترة الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات من القرن المنقضي.
المرحلة الثانية: وتمتد هذه المرحلة منذ منتصف الستينات وحتى نهاية الثمانينيات، حيث بدأت تركيا خلال هذه المدة من مراجعة سياساتها ومواقفها إزاء القضايا العربية، وأدركت أهمية تطبيع علاقاتها مع الدول العربية مع الالتزام بقدر كبير من الحرص والحذر في علاقاتها مع إسرائيل.
المرحلة الثالثة: والتي تمتد خلال عقد التسعينيات وقد بلغت فيها العلاقات التركية الإسرائيلية أوج تطورها ونضوجها إذ دخلت العلاقات مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي، مع توقيع الدولتين اتفاقاً للتعاون العسكري في 23شباط/فبراير عام 1996م، والذي مثّل بجميع المقاييس تهديداً جوهرياً للأمن القومي العربي.
المرحلة الرابعة: وترتبط هذه المرحلة بوصول حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم في تشرين الثاني/نوفمبر عام2002م، وما طرأ من تحولات جذرية على السياسة الخارجية التركية أبرزها الحد من الحضور البعد الأمريكي الإسرائيلي مقابل التوجه نحو إعادة الاعتبار لعلاقات أنقرة مع الجوار العربي والإسلامي، الأمر الذي ادى إلى حدوث توتر غير مسبوق في العلاقات الدبلوماسية التركية الإسرائيلية، خاصة بعد اعتداء إسرائيل على الأسطول التركي في أعالي البحار والمتجهة نحو غزة في 30 آيار/مايو عام 2010م.
ومع مضي الوقت، لم تعد تركيا الدولة الإسلامية الوحيدة التي اعترفت بإسرائيل منذ قيامها عام 1948، بل تبعتها عدد من الدول العربية، واقامة معها علاقات دبلوماسية كمصر في العام 1979م والأردن في العام 1994م، كما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود في العام1993م، لينتقل الصراع العربي الإسرائيلي، من صراع وجود إلى تسويات حدود.
د.معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية