يقول صاحبي: مشكلة القدس بسبب الأحرار والعبيد؛ أخاف عليها من العبيد بمقدار خوفي عليها من الأحرار، بل بعد قراءة ما حدث لها ويحدث الآن؛ فإني محبط مما سيحدث لها بعد قليل!
يقول صاحبي: الأحرار واهمون لأنهم عاطفيون في بلادنا، ولأنهم لا يملكون العدة والعتاد؛ فيتحول كلّ تمردهم إلى ضجيج، والضجيج يقتل الصفاء، والحروب الكبرى تحتاج إلى صفاء، أو ما تسمونه أنتم الهدوء الذي يسبق العاصفة. لذا تأتينا العواصف واحدةً تلو الأخرى، ونحن لا نملك إلا أن ننبطح لها أو نتوارى خلف صخرة عظيمة صمّاء.
يقول صاحبي: أمّا العبيد فإنهم لا يملكون من أمرهم شيئاً؛ افعلوا فيفعلون، تقدموا فيتقدمون، اجلسوا فيجلسون، اقتلوا أقوامكم فيقتلون، استخفوا بقدسكم فيستخفون، اعقدوا صفقة القرن فيعقدون، اشجبوا فيشجبون، ولا تشجبوا فلا يشجبون؛ وبعد كل هذا لا تريدني أن أصاب بالإحباط يا صاحبي؟!
”
العبيد هم العبيد بكل الأزمنة والأمكنة؛ تختلف الملابس وربطات العنق والأحذية الطويلة والقصيرة؛ لكن العقليّة واحدة
”
أعترف بأنني للوهلة الأولى ضاق عليّ الكلام، وأصاب نفسي شيء، بل وكركبني للحظات؛ حتى أسرعتُ ولملمتُ نفسي، وقلتُ له وأنا أسحب نفساً من سيجارتي كأنه الاختناق: حيلك حيلك؛ على رسلك يا صاحبي؛ ما هكذا تورد الإبلُ؛ اقرأ تاريخ القدس جيداً؛ ما يحدث الآن –ولا أقلل من شأنه- ليس شيئاً مع ما حدث في الأزمان الغابرة؛ هذه المدينة مركز الكون الأوّل؛ وأنت ترى بأُم عينيك كميّة الألاعيب والحيل من عربك وعجمك وشرقك وغربك عليها؛ فقط لأنها الطاردة حتى بدون سلاح، القدسُ يا صاحبي لا تتواطأ مع ضعيف، حتى ولو كان من أهلها، ولا تمشي وراء غازٍ، ولو كان جباراً عتيّاً؛ التاريخ علّمنا أن ما يحدث الآن ما هو إلا هامش من الهوامش، والمتن محروس محفوظ لا يصله إلاّ الراسخون في الأصالة والحبّ الحقيقيّ؛ إنهم كحمام القدس جيلٌ يسلِّم جيلاً من الحمام ومن البشر؛ ذات الجينات وذات اللغة والوجه والتاريخ المشترك.
على رسلك يا صاحبي؛ فالعبيد هم العبيد بكل الأزمنة والأمكنة، تختلف الملابس وربطات العنق والأحذية الطويلة والقصيرة؛ لكن العقليّة واحدة، يختلفون في الطعام والشراب والركوب، لكن البلادة واحدة! أتعلم يا صاحبي ما الفرق بين عبيد الماضي وعبيد اليوم؟ قد تستغرب إذا قلتُ لك بالماضي كان العبيد عبيداً فقط، ولدى أسيادهم صكوك عبوديتهم، أمّا اليوم فالعبيد نظام متكامل من الأنظمة؛ نظام يصبح الكبار فيه عبيداً، ويصبح المدججون بالجيوش عبيداً، يصبح أصحاب النياشين الكاذبة عبيداً، ويصبح المنعّمون المتبطِّرون عبيداً.
نحن في زمن يا صاحبي العبد ليس من له صكّ بشرائه؛ بل من كان سيّداً في قومه فباع قومه لأعدائه، وباع الأوطان بأبخس الأثمان؛ والقدس يحسبها من تلك الأوطان التي تشترى وتُباع، وما درى السيّدُ العبد أنه أخذ غفوةً عصراً، فتراءت له القدس وحسب الحُلم حقيقة، ولم يعد يفرِّق بين الأحلام والكوابيس!
يا صاحبي، لدينا الآن نظام متطوّر من العبيد؛ وصل العبدُ فيه إلى مرتبة جاسوس؛ يُطعم قومه الخبزَ البائت في اليمين، وفي الشمال يسلِّمُ للأعداء أسماء الأبطال والأحرار، وإحداثيات البؤر الساخنة في القدس وكلّ فلسطين.
عبيد اليوم يا صاحبي يحسبون العبودية شرفاً ومرتبةً عليا؛ لذا فهم يكرهون عنترة العبسي عندما قال له أبوه شدّاد: كر وأنت حُر؛ لأنهم يستمتعون بقول الأعداء لهم: كرّ وأنت عبد! فيكرّون علينا جولاتٍ وصولاتٍ، ويضعون العراقيل في طريق القدس باسم بناء الأوطان الكاذب.
”
لا أشعر بالإحباط في ما يخص القدس بالتحديد؛ فهذه المدينة ليست طارئةً على الجغرافيا ولا على الحضارات؛ بل هي طاردةٌ لكل غريب أو صاحب فكرةٍ مشوهة
”
يا صاحبي لستُ محبطاً من نظام العبيد هذا، ولو اجتمعت كل العبيد على القدس؛ فالعبيد يحفرون قناةً ويبنون هرماً ويشيّدون ممرّاً، ولكنهم لا يصنعون تاريخاً أبداً؛ يعيقون حركة؟ نعم وأجل وبلى؛ أمّا أنهم يملكون الشوط الأخير من السباق فلا وألف لا.
لذا؛ فإنني أقولها لكلّ من يخاف على القدس الآن، ولكل من هو محبط أو يدنو من مراتب الإحباط أو شواطئه؛ لكل الذين يعتقدون بأن صفقة القرن ستخلعنا عن القدس، وأن قانون العنصرية سيفرقنا عنها، وأن هدم المنازل سيثنينا عن المقاومة، وأن الاعتقال والقتل والسلخ سيجعلنا ندخل في دوامة الإحباط.
أقول لهم: صدّقوني لا أشعر بالإحباط في ما يخصّ القدس بالتحديد؛ فهذه المدينة ليست طارئةً على الجغرافيا ولا على الحضارات؛ بل هي طاردةٌ لكل غريب أو صاحب فكرةٍ مشوهة، القدس حتى اسمها يهديك المعنويات وقتما ترى نفسك قد ضعفت؛ تشعر حين تكرر اللفظة بينك وبين نفسك بأن الطمأنينة تتسرب إليك كما يتسرب الحبُّ إلى قلب عاشقٍ ينتظر وجه حبيبته في أوّل لقاء عند حديقة من الورود.
يقول الإسلاميّون إن القدس مرتبطة بالسماء، ولستُ من الداعين لتصديق هذا أو تكذيبه؛ لكنني من الداعين إلى الخصوصية، إلى التجلّي معها وقت الأزمات، إلى فتح القلب على مصراعيه، وأن تعيش معها توحداً صوفيّاً يعيد إليك اتزانك.
صدّقوني؛ نظام العبيد سيسقط، وسيعود الأحرار أكثر وثباً، ولو كره الدّاسون رؤوسهم في رمال الصحراء الملتهبة!
المصدر : الجزيرة