في معركة الليرة التركية

في معركة الليرة التركية

مع انخفاض سعر العملة التركية أمام الدولار إلى مستويات قياسية، باتت معركة الليرة التركية أم المعارك بين أنقرة وواشنطن، فيما قائدا المعركة، الرئيسان أردوغان وترامب، يقودان هذه الحرب، ويمارسان سياسة مشابهة تقوم على الشعبوية والتحدّي والتهديد بالمزيد، ولعل لكل واحد عوامله وأسبابه التي ينطلق منها في هذه المعركة التي لها خلفيات سياسية تتعلق بتراكم الخلافات بين البلدين خلال السنوات الماضية.
لا يمكن المقارنة بين قوتي الليرة التركية والدولار الذي بات من أهم أسلحة ترامب في فرضه العقوبات على روسيا والصين وإيران، وصولا إلى تركيا، ومع أن تقارير تفيد بأن تركيا هي الدولة الأضعف بين الدول المذكورة في القدرة على مواجهة وحش العقوبات الأميركية، إلا أن ثمة من يرى أن هذه المعركة قد تدفع تركيا إلى معالجة جوانب الخلل البنيوي في اقتصادها، وهي جوانب تتعلق بالعلاقة السلبية التي تكونت بين أردوغان والبنك المركزي، بسبب إصرار أردوغان على رفض رفع أسعار الفائدة، والتدخل في سلطة النقد، فضلا عن اعتماد الاقتصاد التركي بشكل كبير على الاستثمار، وما ترتب على ذلك من ديون كبيرة، وفائدة أكبر عليها، الأمر الذي جعل من اقتصادها الناشئ في خطر، كما تجسّد في الانهيار الكبير لسعر الليرة خلال الأيام الماضية، فيما أزمة انهيار الليرة التركية قد توفر فرصة حقيقية لمعالجة جوانب الخلل هذه، وفق أسس مقبولة ومدروسة، بعيدا عن الشعارات الشعبوية التي تضرّ بالاقتصاد أكثر مما تنفع.
في واجهة الأزمة بين أنقرة وواشنطن، قضية احتجاز تركيا للقس الأميركي أندور برانسون،

وهي قضية مهمة لترامب في الداخل، مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس، وأهميته لترامب لا تقل عن أهمية فتح الله غولن بالنسبة لأردوغان الذي طالب حليفه الأميركي بتسليمه إياه، بوصفه الرجل المدبر لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشل قبل أكثر من سنتين، ولعل ما فاقم من حدة أزمة قضية برانسون – غولن حدة التصريحات الإعلامية المتبادلة، والتي تلقفها الإعلام بقوة، وصدّرها إلى سدة مشهد العلاقة بين البلدين، في حين أن خلاف واشنطن مع أنقرة بشأن العقوبات الأميركية على إيران والتقارب التركي مع روسيا، أكبر وأهم من ذلك بكثير، ما يجعل الاعتقاد بأن قضية برانسون لن تحل الخلافات بين البلدين، حتى لو أطلقت أنقرة سراحه، مع أن ثمة من يتساءل عن الحكمة من عدم إطلاق أنقرة سراحه حتى الآن، حفاظا على الليرة التركية من الانهيارات على وقع تغريدات ترامب وتهديده بمزيد من العقوبات، بل ثمّة من يرى أن عدم إطلاق سراحه مفيد لترامب في الانتخابات النصفية المقبلة للكونغرس، فيما أزمة الليرة في الداخل التركي تتفاقم على شكل تآكل للقدرة الشرائية، وتفاقم للديون الخارجية والداخلية، وهروب للاستثمارات، وحالة فزع وخوف وعدم استقرار، بما يضع ذلك كله تركيا أمام مرحلة صعبة، تتجه فيها الأنظار إلى الخيارات التي ستتبعها للخروج من أزمة انهيار الليرة.
وقد أظهر تفجر أزمة الليرة بين ترامب وأردوغان نقطة ضعف تركية خطرة، عرف ترامب كيف يستغلها عبر تغريداته التي أشارت بوضوح إلى ضعف ورقة الليرة التركية أمام الدولار، فيما لم يخرج أسلوب أردوغان بقوله “لكم دولاراتكم ولنا الله وشعبنا” عن أسلوبه الشعبوي الذي لن يقدم وصفة نجاة اقتصادية، على الرغم من البعد النفسي لها. وعليه، تبقى معركة الليرة التركية خطرة ومصيرية، في بلد يستورد معظم حاجاته من الطاقة، ويستورد بالدولار أكثر مما يصدّر، معركة تتعلق بجوهر الاقتصاد الذي كان من أهم أسباب فوز أردوغان وحزبه في الانتخابات التي جرت منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002.
يبقى السؤال عن خيارات تركيا في مواجهة أزمة انهيار سعر الليرة هو الأهم. بالتأكيد الإجراءات الداخلية مهمة لكنها غير كافية، كما أن التلويح بالذهاب أكثر نحو الصين وروسيا قد لا يكون سوى تعبير عن أزمة العلاقة مع الإدارة الأميركية، إذ من الصعب تصوّر وجود تركيا خارج منظومة حلفٍ هي عضو فيه لأكثر من نصف قرن، في ظل تقاطعاتٍ تجعل من المصالح المتبادلة حيوية للطرفين، على الرغم من حدّة الخلافات بينهما وتراكمها.

خورشيد دلي
العربي الجديد