على مدى السنوات الإحدى عشرة الماضية، لطالما كرر المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي وصْفْ العقوبات الأمريكية بالحرب الاقتصادية الشاملة على إيران، لا سيما تلك التدابير التي تستهدف قطاعات الاستيراد والتصدير، والتقنية المتقدمة، والمالية في البلاد، داعياً إلى “الجهاد الاقتصادي” للرد عليها. وكانت “المنظمة الوطنية للدفاع السلبي” (“المنظمة”) إحدى الكيانات التي استخدمها النظام الإيراني في هذا الصراع، وهي هيئة شبه عسكرية مسؤولة عن تعزيز مرونة البنية التحتية الوطنية في إيران. إلّا أن مهمة هذه “المنظمة” تحوّلت المرة تلو الأخرى إلى تدابير قمعية ضد الشعب الإيراني وغير ذلك من الأنشطة التي تستدعي فرض العقوبات.
توسّعٌ في الدَوْر والميزانية
تم تأسيس “منظمة الدفاع السلبي” في تشرين الأول/أكتوبر 2003 بعد “عملية حرية العراق”، وربما يعود السبب لذلك إلى الخوف من قيام تحالف عسكري دولي يعمل على “وضع إيران في مرماه” بأسرع وقت ممكن. وتتولى هذه “المنظمة” بموجب القانون مسؤولية “وضع السياسات، والتخطيط، والتوجيه، والتنظيم، والتنسيق، والمراقبة والرصد، والتشغيل فيما يخص أنشطة الدفاع السلبي والدفاع المدني التي تمارسها الوكالات المنفّذة”، بما يشمله ذلك من جهود التعامل مع التهديدات الإلكترونية والبيولوجية والإشعاعية والكيميائية والاقتصادية. وتتضمن هذه المهام تصميم المواقع النووية وتعزيزها وتأمين أمنها الخارجي، بالإضافة إلى توفير اليد العاملة لمقر مخصص لكشف الإشعاعات واحتوائها وإزالة التلوث في المحافظات الأربع التي تضم هذه المواقع. وتمتد مهمتها أيضاً إلى قطاعات المال والبناء والصناعة والاتصالات والإعلام والطاقة والأمن الغذائي والنقل والدفاع. وحيثما تتداخل المسؤوليات وتوصيفات الوظائف، عادةً ما تعمد “المنظمة” إلى إبرام اتفاقيات تعاونية مع كيانات مدنية وعسكرية وأمنية أخرى.
ولكن في السنوات الأخيرة، تمّت ترقية “منظمة الدفاع السلبي” بحكم الأمر الواقع إلى وزارة للحرب الاقتصادية وانتقلت بذلك إلى طليعة “الحملة الهجينة” التي تشنها إيران ضد أعدائها. ومنذ أيلول/سبتمبر 2015، تولّى قيادتَها العميد المعروف بصراحته غلام رضا جلالي فراهاني من «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني. وتخضع “المنظمة” لإشراف لجنة يرأسها رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري. يشار إلى أن جلالي عضو في هذه اللجنة إلى جانب وزيرَي الدفاع والداخلية وكبار نواب رئيس الجمهورية ورئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان. ثم تحولت “المنظمة” مع المركز الرئيسي لعملياتها في طهران المعروف بـ “مقر الشهيد زين الدين” بصورة تدريجية إلى منظمة عسكرية عملياتية تتكون بغالبيتها من أفراد «الحرس الثوري» والباسيج. وحيث يخضع جلالي لإمرة كل من المرشد الأعلى وباقري فقط، فذلك يمنحه سلطةً واسعة ويجعل تنفيذ القرارات التنظيمية المعتمدة من قبل “منظمة الدفاع السلبي” أمراً إلزامياً.
وبما أن “المنظمة” تأسست كجزء من هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، فلم تكون لها ميزانيتها الخاصة قبل السنوات الثلاث الماضية وكانت معظم مشاريعها مموّلةً من قبل وكالات تعاقدية أو من خلال هيئة الأركان العامة (وعموماً، شهدت القوات المسلحة ازدياداً تصاعدياً في تمويل الدفاع السلبي خلال العقد المنصرم). أما اليوم، فأصبح لـ “منظمة الدفاع السلبي” ميزانيتها الخاصة التي بلغت 34 مليون دولار خلال السنة المالية الماضية ومن المتوقع زيادتها في المرحلة المقبلة.
فضلاً عن ذلك، تشمل مهمة “المنظمة” توسيع “خدماتها إلى الدول الأخرى ضمن حدود دبلوماسية الدفاع الوطني [الخاصة بإيران]” بما أن الدفاع السلبي يعتبر جزءاً لا يتجزأ من “عقيدة المقاومة الإقليمية” للنظام. وكما أشار جلالي في تشرين الأول/أكتوبر 2017، تعمل “منظمة الدفاع السلبي” عن كثب مع كل من سوريا والعراق و«حزب الله» في لبنان. وعلى نحو مماثل، أفاد الأمين العام لـ “المجلس الأعلى للأمن القومي” علي شمخاني في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 – أي بعد مرور عام واحد فقط على إبرام الاتفاق النووي – أن طهران تنوي المضي قدماً بعقيدتها الإقليمية في الوقت نفسه الذي طلبت فيه من النظام التجاري الدولي مساعدتها على تطوير الاقتصاد الإيراني، ولكن تم إحباط هذا الطلب مع عودة العقوبات.
الدفاع – والهجوم الإلكتروني
خلال سنوات تكوينها ركّزت “منظمة الدفاع السلبي” على تحسين قدرة الصمود في البنية التحتية الإيرانية الحيوية مستخدمةً الأساليب التقليدية، ومستعينةً بالخبرة التي اكتسبتها في الحرب بين إيران والعراق. وقد عنى ذلك انتهاج نموذج معتمد للحرب الاقتصادية يَستخدم فيه العدو القوة العسكرية لاستهداف البنية التحتية المذكورة بصورة تحكّمية. وعلى هذا النحو، فوجئ جلالي وغيره من قادة الدفاع بالطبيعة المختلطة للحرب الحديثة، والنمو السريع في استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في إيران، ونماذج الحرب الاقتصادية الجديدة التي تعتمد فقط على الوسائل غير العسكرية أو “الناعمة”. وحين أدركوا حقيقة الأمر، بدأوا يبحثون عن طرق بديلة للكشف عن التهديدات الناشئة واحتوائها.
واليوم، يتمثل أحد الأدوار الرئيسية لـ “منظمة الدفاع السلبي” باستخدام “كافة الموارد الإلكترونية وغير الإلكترونية الوطنية لردع ومنع وحرمان وتحديد والتصدي بفعالية لأي هجوم إلكتروني على … البنية التحتية الوطنية في إيران من قبل دول أجنبية معادية أو جماعات [محلية] مدعومة من قبلها”. والواقع أن الشق الأخير من هذا الاقتباس يتسم بأهمية فائقة: فنظراً للطبيعة الاستبدادية للنظام الإيراني، أصبحت مهمة “المنظمة” تشمل اليوم بشكل أساسي أي استياء محلي أو مطالبة علنية بالحريات المدنية، بما في ذلك عبر شبكة الإنترنت. ففي شهر كانون الثاني/يناير، على سبيل المثال، ألقى جلالي اللوم على تطبيق المراسلة الشائع “تيليغرام” وتسببه بالتحريض على التظاهرات الشعبية ضد الفساد والظلم المتفشيين.
ويشار إلى أن مسؤولي الدفاع السلبي في إيران يهتمون بشكل خاص بالتصدي لما يعرف بـ”قوة الإجبار”، وهو مفهوم اقترحته منظمة “راند” في دراسة أجرتها برعاية الجيش الأمريكي عام 2016 ، ويشمل استخدام الوسائل غير المميتة لإرغام الخصوم على الإذعان. وقد استخدم جلالي هذا المصطلح مراراً، محذّراً من أن الأطراف الخارجية قادرة على استخدام مثل هذه الأساليب لتوجيه الرأي العام ضد النظام، وبهذه الخطوة، نسبَ كل بوادر الاستياء الأخيرة إلى التأثيرات الخارجية. ومن وجهة نظره، تواجه “الثورة الإسلامية” مجموعةً متنوعةً من التهديدات، حيث يستخدم الأعداء الخارجيون مزيجاً من الأدوات العسكرية، والحرب الاقتصادية، والوكلاء المحليين القادرين على تنظيم تظاهرات طلابية وثورة مخملية. وفي الشهر الماضي، جادل بأن الحملة الإلكترونية الأمريكية تزداد فعالية وتحرّض الإيرانيين ضد رجال الدين الحاكمين، في حين حذّر الرئيس حسن روحاني الولايات المتحدة من تحريض الشعب ضد “أمن إيران ومصالحها”. ومن خلال نشر هذه الأفكار التي تنسب الاضطرابات الأخيرة إلى فعل أطراف خارجية – سواء كانوا معارضي “حركة مجاهدي خلق”، أو مؤيدي الحكم الملكي، أو الغرب، أو الصهاينة – يسعى النظام إلى كسب التأييد الشعبي والحصول على مبرر لاستهداف أي شكل من أشكال المعارضة المحلية وملاحقتها قضائياً.
بيد، بدأ دور “منظمة الدفاع السلبي” في تنفيذ هذه السياسة قبل فترة طويلة من نشوب التظاهرات الأخيرة. فمنذ سنوات اعتبرت طهران أن الفضاء الإلكتروني يشكل تهديداً وجودياً، وذلك بعد تعرّض بنيتها التحتية النووية لهجوم بواسطة فيروس “ستاكسنت” عام 2010، وفي أعقاب هجوم الفيروس الألكتروني “فليم” على قطاعها النفطي عام 2012، وبعد التظاهرات الحاشدة التي انطلقت عام 2009 وبين العامين 2011 و2012 ثم بين 2017 و2018 والتي تم تنظيمها بشكل رئيسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وردّاً على تلك الأحداث، أنشأت هيئة الأركان العامة مقراً للدفاع الإلكتروني في تشرين الأول/أكتوبر 2011 للكشف في الوقت المناسب عن التهديدات الناشئة والقضاء عليها، ووضعته تحت مسؤولية “منظمة الدفاع السلبي”.
ومع ذلك، لا تقتصر مهام هذا المقر على “الدفاع” بل تشمل أيضاً تنسيق الرقابة على أنشطة المواطنين عبر الإنترنت وشنّ – وفق ما يُدّعى – هجمات إلكترونية بالتعاون مع هيئة القيادة الإلكترونية التابعة للباسيج و«الحرس الثوري». وفي شباط/ فبراير 2012، اتخذ جلالي خطوةً إضافيةً في هذا الإطار من خلال الدعوة لإنشاء جيش إلكتروني إيراني.
توصيات سياسية
إن ما يدحض الدور الاسمي الذي تضطلع به هذه “المنظمة” – الخاضعة لسيطرة «الحرس الثوري» – في مجال الدفاع السلبي هو أنها تنخرط بشكل متزايد في عملية رصد الإيرانيين وقمعهم بحجّة حمايتهم. فقادة النظام يخشون من قيام الولايات المتحدة باستهداف مراكز جاذبيتهم الاجتماعية، بما فيها مصداقية المرشد الأعلى، والمعتقدات الدينية للشعب، وعلاقات الجمهور مع النظام وكياناته الثورية (كـ «الحرس الثوري» والباسيج). ولهذا السبب، أعطوا توجيهاتهم على ما يبدو إلى ما يسمّى بهيئات الدفاع الثقافية والإعلامية للكشف عن أي بوادر استياء اجتماعي سياسي بين السكان الذين يتكلمون بصراحة متزايدة، وتحديد موقع هذا الاستياء وعزله، لتصبح “منظمة الدفاع السلبي” فعلياً على قدم المساواة مع سائر الفروع القمعية الأخرى للجمهورية الإسلامية.
وعلى الرغم من سجلها القمعي الحافل، بقيت “منظمة الدفاع السلبي” التوسّعية حتى الآن بمنأىً عن عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية، مع أن الاتحاد الأوروبي فرض عليها العقوبات في عام 2010 على خلفية ارتباطها ببرنامج إيران النووي. من هنا، يجب على واشنطن أن تصلح هذا الإغفال عبر إدراج “المنظمة” بأكملها أو “مقر الدفاع الإلكتروني” التابع لها على قوائم العقوبات الأمريكية. وإذا تم التوصل إلى نتيجة أقل من ذلك، فباستطاعة المسؤولين الأمريكيين أن يوجّهوا تحذيراً لإيران حول ضرورة نزع سلاح كافة هيئات الدفاع السلبي المماثلة بصورة كاملة وإبطال أعمالها الضارة وإلا ستواجه عقوبات.
فرزين نديمي
معهد واشنطن