في ظل الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية على عدد من الاقتصادات -بينها تركيا وروسيا وإيران- عبر فرض سلسلة عقوبات لإخضاعها، بالإضافة إلى حرب دونالد ترامب التجارية على الاتحاد الأوروبي والصين وشركاء آخرين؛ تجددت الدعوات لاعتماد العملات الوطنية في التعاملات الخارجية للتخلص من قبضة الدولار الذي تمارسواشنطن من خلاله ضغطا على الدول باعتباره العملة الأكثر انتشارا.
ويطرح التوجه نحو استعمال العملات الوطنية في التعاملات التجارية البينية تساؤلات بشأن مصير الدولار ومعه الاقتصاد العالمي بشكله الحالي، وهل يمكن أن تختفي العملة الخضراء من الأسواق كعملة قوية في حال نجحت هذه المساعي، وأي انعكاسات محتملة لإمكانية اعتماد عملة أو سلة عملات عالمية بديلة للدولار؟ هذا ما حاولت الجزيرة نت الإجابة عنه من خلال استطلاع آراء عدد من الخبراء.
هيمنة العملة الأميركية
ترى الخبيرة الاقتصادية آنا كوكوريفا نائبة مركز التحاليل الاقتصادية (الباري) أن جهودا عديدة من الدول نحو إيجاد عملة جديدة تحل مكان الدولار أمر ليس بالسهل، ولكنه ليس مستحيلا.
وتقول للجزيرة نت “إذا اتفقت دول على إحلال “سلة عملاتها” في التعامل في ما بينها؛ فإن ذلك سيحد من هيمنة الدولار في التعاملات التجارية.
وتعتقد كوكوريفا من روسيا أن فكرة إحلال الروبل بدل الدولار الأميركي في التعاملات التجارية بين روسيا والدول الأخرى أمر جيد وواقعي، ويمكن العمل في هذا الاتجاه، لكنها ربطت ذلك بأن تكون الخطوات مدروسة وتدريجية، وضمن منظومة اقتصادية تسمح بالتعامل بالعملات الوطنية بين روسيا والدول الأخرى.
وتحدثت في هذا السياق عن الاتفاق الذي تم مع الصين للتعامل بالروبل الروسي واليوان الصيني في التبادلات التجارية بين البلدين في ما يخص استيراد النفط الروسي، وتعاملات أخرى مثل بيع الألماس.
من جهته، أكد المدير العام لشركة نماء للاستشارات المالية طه عبد الغني أن أميركا ما فتئت تستخدم الدولار كورقة ضغط لتحقيق مصالحها، خاصة مع توقيع اتفاقية البترودولار مع السعودية، حيث بات كل المتعاملين بالعملة الخضراء يلجؤون للبنوك الأميركية.
أما بخصوص استخدام العملات الوطنية كأساس للتعاملات، فقال إن ذلك يحتاج إلى اتفاقات خاصة في ظل وجود صعوبات تتعلق بمستويات التضخم ومعدلات النمو في كل دولة.
ورأى في حديث للجزيرة نت أن الأسهل هو استخدام سلة عملات عالمية لتقييم العملات الوطنية، وفي هذه الحالة لا تستطيع أميركا التحكم في الدول.
كما اقترح طه عبد الغني استخدام الذهب كوحدة متفقة عليها لتقييم السلع والخدمات وتقييم كل عملة وطنية.
وقال “أساس الذهب في هذه الحالة سيكون عادلا، ونعود بذلك إلى ما كانت عليه الحال قبل استخدام العملات العالمية”.
وتشهد الليرة التركية والريال الإيراني والروبل الروسي تراجعات كبيرة على خلفية العقوبات الاقتصادية التي فرضتها أميركا على كل من تركيا وإيران وروسيا، التي تتهم الغرب بشن حرب اقتصادية عليها.
وهدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالتخلي عن الدولار في التعاملات التجارية، معبرا عن استعداد بلاده لإجراء المعاملات التجارية بالعملات الوطنية مع الصين وروسيا وأوكرانيا.
كما قال روسيا تفضل إجراء معاملاتها التجارية الثنائية مع جميع الدول بعملاتها الوطنية بدل الدولار.
اختلالات
ويعتقد الخبير الاقتصادي الروسي تيمور نجماتولين أن فكرة تقليص الاعتماد على الدولار الأميركي في التعاملات بين روسيا ودول العالم الأخرى غير صائبة، وقد تؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة.
وعزا ذلك إلى كون الدولار يشكل 71% من حجم مداخيل الصادرات الكلية لروسيا.
وقال للجزيرة نت “إذا تم الاستغناء عن الدولار في التعاملات التجارية لصالح الروبل، فإن ذلك سيؤدي إلى اختلالات في الميزان التجاري العام قد يصل إلى 4.5 مليارات دولار أميركي خلال ربع سنة، وهذا سيلقي بظلاله السلبية علىميزان المدفوعات الروسي.
وأضاف نجماتولين أن اعتماد الروبل كوحدة نقدية للتعامل التجاري الخارجي يحتاج إلى استحداث منظومة اقتصادية فاعلة، وفي ظل اقتصاد قوي لا يعتمد أغلبه على إيرادات النفط والغاز.
أما في ما يخص إمكانية إطلاق عملة بديلة للتعامل على غرار عملة بريكس، فيرى الخبير الاقتصادي أنه من المبكر الحديث عن تحقق ذلك لوجود تباينات بين اقتصادات دوله.
وأشار إلى أن أغلب عملات أعضاء بريكس غير مستقرة، إضافة إلى أن أسعار النفط تحدد عالميا بالدولار الأميركي.
ومن بين أهداف دول مجموعة بريكس (البرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا) التي عقدت أول قمة لها في 2009 تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية وتدويل العملات المحلية وإجراء العمليات التجارية البينية بعيدا عن الدولار ، في حين أطلقت المجموعة “بنك التنمية الجديد” برأسمال مدفوع يبلغ خمسين مليار دولار.
وتعتبر مجموعة بريكس صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم، وتسهم بنحو 20% من الناتج الإجمالي العالمي، و15% من التجارة الخارجية، كما تمتلك احتياطيا نقديا يفوق أربعة تريليونات دولار.
عملات بديلة
من جهته، اعتبر الخبير الاقتصادي العربي المقيم بتركيا شهاب العزعزي أن أي تحرك باتجاه التأثير على مركزية الدولار في المعاملات الدولية من شأنه أن يغير اقتصاد العالم أجمع، وينهي النظام الأميركي ومعه النظام الرأسمالي، ويؤسس لبديل طبيعي آخر قال عنه إنه “الاقتصاد الإسلامي”.
وأضاف في حديث للجزيرة نت أن من مصلحة الصين وروسيا كدولتين كبيرتين أن تنهار الرأسمالية، ويبدأ البحث عن بديل بوجود هاتين الدولتين لأنهما مؤهلتين للضغط على الدول الأخرى لاعتماد عملة عالمية بديلة.
لكنه لفت إلى أنه من نقاط قوة الدولار أن العالم مرتبط به، لذلك إذا انهارت العملة الأميركية سينهار كل اقتصاد العالم. وقال العزعزي “إذا تم اتخاذ قرار باعتماد عملة بديله فهذا يعني أن الجميع سيتحمل تكاليف الانهيار”.
واعتبر أنه ليس بالسهولة إطلاق عملة بديلة للدولار على غرار عملة بريكس، وأكد أن “الموضوع ليس فقط عملة، لكنه نظام اقتصادي عالمي مرتبط ومتحكم بجميع الأنظمة الأخرى وعلى رأسها السياسة”.
وأضاف أن “التحرر من الارتباط بالدولار يحتاج إلى ترتيب وتنسيق وموافقة مسبقة مع سلة العملات الدولية بالتنسيق مع الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى ضمن العشرين مثل المانيا والبرازيل وغيرها على قاعدة ضمان مصالحهم، وضمن قرار جماعي وخطة عالمية ذات رؤية زمنية.
وعاد ليؤكد أنه من الممكن إيجاد عملة بديلة للدولار، وفك الارتباط، لكن على الجميع أن يتحمل الانهيار وتبعاته.
وعن مساعي دول مثل إيران وتركيا والصين لاعتماد العملات الوطنية في التجارة -خاصة بالنفط- بوصفها مدخلا للتخلص من الدولار كعملة ضاغطة؛ قال العزعزي “كل أساليب الضغط تعتبر عوامل مساعدة فقط خاصة عندما تقول بذلك دول ليست ضمن الدول العظمى دائمة العضوية، وبالتالي فإن قدرتها التأثيرية تبقى محدودة”.
وأشار إلى أن أي توجه من هذا القبيل يحتاج إلى اتخاذ قرار جماعي عالمي لحزمة إصلاحات اقتصادية جديدة مغايرة للنظام الرأسمالي الحالي باتجاه تنفيذ نظام اقتصادي جديد، يكون من متطلباته تغيير سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وإنشاء منظمات دولية أخرى.
وتظهر بيانات لصندوق النقد الدولي صدرت في ديسمبر/كانون الأول الماضي هبوط حصة الدولار في الاحتياطي العالمي للعملات بنهاية سبتمبر/أيلول المنصرم إلى أدنى مستوى منذ 2014.
فقد وصلت هذه الاحتياطات إلى 6.13 تريليونات دولار، أي 63.5% من مخصصات الاحتياطات في الربع الثالث من 2017، مقابل 63.8% في الربع الذي قبله، وهو ثالث انخفاض على التوالي لحصة العملة الأميركية في الاحتياطات العالمية، حسب ما أوردته وكالة رويترز.
الجزيرة