لطالما أثارت المناورات الدبلوماسية التي يبتدرها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في ساحات العلاقات الدولية، ما يرفع حواجب الدهشة وعلامات الاستغراب. “أميركا أولا” كانت شعاره الذي خاض به الانتخابات الرئاسية، وهي أيضاً الممحاة التي أمسك بها لمحو سياسات سلفه، باراك أوباما، الداخلية والخارجية. “أميركا أولاً” عنده هي أميركا التي تتحلل من التزاماتها الدولية، والتي يرى أن سلفه قد “ورّط” الولايات المتحدة فيها. رأينا الرجل يربك علاقات بلاده الثنائية والجماعية، ولا تجد كندا ولا المكسيك من جيرانه الأقربين راحة في علاقاتهما معه. مع إيران ينفض يديه عن اتفاق شبه جماعي، شاركت فيه بلدان أوروبية، فإذا به يمهد بذلك لإعطاء ظهره لحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في أوروبا.
(2)
لعل الأكثر وضوحا في سياسة ترامب الخارجية أنها تميل إلى “الدبلوماسية المزاجية الرئاسية”، تخصّ البيت الأبيض، من دون أن تصدر عن وزارة الخارجية، موئل الدبلوماسية المؤسسية. ولعل كلمة “المزاجية” تعود إلى ما يبدو من تخبّط في معالجة ملف واحد، هو ملف التسلح النووي. بعد إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، يرفع ترامب لهجته مهدّدا كوريا الشمالية بالويل والثبور، لكنه سرعان ما يتراجع، ويزور كوريا الشمالية، ويوقع اتفاقا مع زعيمها الغريب
الأطوار، لكن الرجل يعود لينظر بغضب إلى طهران، ويطلق تهديداته، مطالبا ربما ليس فقط بإلغاء برامجها النووية، بل بما قد يحدث تغييرا في النظام الإسلامي هناك.
(3)
مع التقليل من دور الدبلوماسية التقليدية في صياغة المواقف الأميركية في الساحات الدولية، يميل ترامب إلى الاعتماد على وزارة الخزانة، الذراع الاقتصادي الذي يشكل الجهة الفعلية التي تعطيه السلاح الاقتصادي الفعال، لتطبيق سياساته الخارجية. بالفعل لم تعد المجنزرات والرشاشات والقنابل السلاح المناسب في الساحة الدولية، فثمّة سلاح أقل ثمناً وأكثر فتكاً وأشدّ أثرا، هو سلاح العقوبات الاقتصادية. هذه المرّة من يعين ترامب هي وزارة الخزانة الأميركية، ولم يكن للخارجية من دور إلا إعلان نفاذ تلك العقوبات.
تفعيل ترامب العقوبات الاقتصادية ضد إيران في أغسطس/ آب الحالي ستراه إيران إعلانا لحرب معنوية، ولربما تشكل هذه العقوبات في نظر النظام خطراً على استقرار البلاد التي تعاني أصلاً من متاعب اقتصادية. لن يكون رد إيران سهلاً، وإيران ليست بلدا مستضعفا.
(4)
لعلّ على الإدارة الأميركية أن تجري تقييماً لسياساتها السابقة في فرض العقوبات على البلدان التي لا ترضى عنها. ولعلّ تجربة فرض عقوبات على دولة مثل السودان، ولفترة تجاوزت العشرين عاما، لم ينتج عن تطبيقها أيّ تبديل في النظام السوداني، وإن وقعتْ بعض التعديلات المؤثرة على سياسات ذلك النظام، وعلى استقراره وتماسكه. إلى ذلك، فإن رفع العقوبات عن كاهل السودان، منذ أشهر مضت، يثير تساؤلا عن مدى فعالية العقوبات الاقتصادية، باعتبارها عاملا مؤثرا وسلاحا يعوّل عليه في تنفيذ السياسة الخارجية.
(5)
ثمّة ملاحظتان مهمتان بشأن جنوح الإدارة الأميركية إلى اعتماد العقوبات الاقتصادية سلاحا في ساحات السياسة الخارجية.
أولهما أنها تتم في منأى عن الأجهزة التي توافق عليها المجتمع الدولي لحفظ الأمن والاستقرار فيه، وأعني هيئة الأمم المتحدة وهيئاتها ووكالاتها ومنظماتها. مسلك كهذا من دولة كبرى، مثل الولايات المتحدة، يضعف تلك المنظمة الدولية، ويزعزع قدراتها وفعاليتها. ليس في “مزاج ترامب” ما قد يحيله إلى ملاحظة ذلك الأثر السلبي، فيما هو يرفع شعاره، وبالصوت العالي: “أميركا أولاً” .
ثاني الملاحظتين تتصل بالطرف الذي تقع عليه العقوبات. تأثير تلك العقوبات بليغ على الأطراف الضعيفة، طفيف على الأطراف القوية. يضطرب نظام السودان إزاء العقوبات الأميركية، لكن دولة مثل إيران لن تأبه كثيرا بمثل تلك العقوبات، ولك أن تنظر إلى مناورات طهران العسكرية في مضيق هرمز.