في حين أن موسكو قد تكون مستعدة لإنهاء الصراع السوري، فإن طهران ودمشق ليستا كذلك. وتستعد كلاهما لتنفيذ عملية رئيسية في الشمال الغربي، مع توجه كميات كبيرة من التعزيزات إلى تلك المنطقة مؤخراً. ويبدو أن روسيا أعطت الضوء الأخضر لتنفيذ هجوم محدود في شمال شرق محافظة اللاذقية. لكن من غير المرجح أن تتوقف قوات الحكومة السورية هناك.
* * *
في أعقاب استيلاء الحكومة السورية على جنوب البلد بالكامل، هناك مؤشرات حقيقية على أن روسيا تنوي تقليص وجودها ومسؤولياتها في سورية. ولم تعلن موسكو عن هذا صراحة، على النقيض من إعلاناتها الثلاثة السابقة عن نية الانسحاب. وكان كل من هذه الإعلانات قد جاء بعد تحقيق انتصار رئيسي، مثل استعادة حلب من أيدي الثوار، أو شرق سورية من “داعش”، ولم تنجم عنها أي تخفيضات ملموسة في القوات. وعلى الرغم من غياب الضجيج، فإن التطورات والتصريحات الأخيرة تشير إلى أن خفضاً جزئياً للتواجد الروسي قد بدأ فعلاً.
ربما يكون خفض جوهري للقوات قد حدث مسبقاً في أوساط الشرطة العسكرية الروسية في البلد. فبعد سحبها بشكل أساسي من المناطق المسلمة السنية في شمال القوقاز، تواجدت أربع كتائب من الشرطة العسكرية الروسية في سورية منذ تم نشر أول كتيبة شيشانية في حلب في كانون الأول (ديسمبر) 2015. وتم تدوير هذه القوات وإعادتها إلى الوطن بشكل عام بعد جولات من الخدمة تتراوح مدتها بين 3 و6 أشهر، على الرغم من أن التفاصيل ليست معروفة بالكامل. ويُزعم أن إحدى الكتائب، وهي من داغستان، أعيدت إلى الوطن بشكل دائم في كانون الأول (ديسمبر) 2017: وربما يكون قد تم استبدالها، لكن هذا الشأن يبقى غير واضح. ومع ذلك، عادت أربع وحدات مختلفة إلى الوطن خلال الأسابيع العشرة الأخيرة. وعادت كتيبة شيشانية إلى غروزني يوم 30 أيار (مايو)، في حين عادت كتيبة داغستانية أخرى إلى قاعدتها في الوطن في أواخر تموز (يوليو). وحدثت عودة أخرى أكثر إثارة للفضول، مع إعادة وحدتين صغيرتين إلى قاعدة موزدوك الجوية في أوسيتيا الشمالية: 150 فرداً من الشرطة العسكرية يوم 30 حزيران (يونيو)، تلاهم 100 آخرون في 17 تموز (يوليو). وفي حين أن الحجم الحالي لقوات الشرطة العسكرية الروسية في سورية ما يزال غير واضح، فإن المعدل المرتفع بشكل غير اعتيادي لانسحابات الوحدات يشير إلى عددها قد انخفض بشكل كبير على نحو شبه مؤكد.
في الوقت نفسه، أبلغت روسيا إسرائيل بشكل قاطع بأنها لن تدعم الضمانات الأمنية المتعلقة بإيران وحزب الله، والتي كانت الدولة اليهودية قد سعت إلى الحصول عليها العام الماضي. وفي حين أن موسكو بذلت القليل من الجهد للحد فعلياً من النشاط المتزايد لإيران ووكلائها بينما يقومون بتطوير البنى التحتية والقدرات لاستهداف إسرائيل من سورية، فقد أنعش الكرملين الآمال، ظاهرياً بأنه سيقيد حلفاءه السابقين. وكانت روسيا قد أعلنت على الملأ أن “كافة القوات الأجنبية” يجب أن تغادر سورية، على الرغم من الرفض الإيراني.
لكن هذا تغير يوم 30 تموز (يوليو)، عندما أعلم المسؤولون الروس إسرائيل لأول مرة بأنهم لا يستطيعون إرغام إيران على سحب قواتها من سورية. وكان توقيت هذا التصريح كاشفاً؛ حيث جاء فقط بينما استعادت قوات النظام السوري كامل المنطقة الحدودية المجاورة لمرتفعات الجولان. وأوضح المسؤولون الروس منذ ذلك الحين هذا الإعلان بعض الشيء؛ حيث ادعى وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، أن إيران وافقت على إبقاء وحداتها على بعد 52 ميلاً على الأقل من المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل. ومع ذلك، فإن الواقع هو أن لدى موسكو القليل من الخيارات المتاحة للسيطرة على حلفائها في المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ملاحظاتها لإسرائيل تشير إلى أنها لا ترى نفسها مسؤولة عن منع الاشتباكات بين الطرفين.
ربما يكون التطور الأخير الأكثر كشفاً هو توضيح موقف روسيا من محافظة إدلب. ففي مقابلة مطوّلة أجريت معه يوم 1 آب (أغسطس)، وصف ألكسندر لافرينتييف، المبعوث الرئاسي الروسي الخاص إلى سورية، الأولويات الروسية في سورية، مركزاً على المسار السياسي لمفاوضات سوشي وأستانة. وعندما سُئل عن الوضع في إدلب، قال لافرينتييف إن “من المستحيل تركها كما هي”، مستشهداً بوجود أعضاء من مجموعة المظلة السلفية المتمردة، “هيئة تحرير الشام” في المنطقة. ومع ذلك، أشار بوضوح إلى أن روسيا “لن تسعى إلى تدمير كل شيء بشن هجمات أمامية”، رافضاً اقتراحاً بأن موسكو ستساعد حكومة بشار الأسد عسكرياً لاستعادة كامل المحافظة. ولاحظ لافرينتييف بدلاً من ذلك أن “المعارضة المعتدلة”، التي يفترض أنها عناصر تدعمها تركيا، يجب أن “تهزم هذه العناصر المتطرفة”، وهي مهمة سوف “تتلقى فيها دعم روسيا بكل طريقة ممكنة”. وبدا أنه يؤكد بذلك أن روسيا ستحترم طوق القواعد العسكرية التركية الممتد على طول الخطوط الأمامية للمناطق التي يسيطر عليها المتمردون في إدلب وحلب، ولن تلتزم بشكل كامل بدعم هجوم يشنه النظام على المنطقة.
أخيراً، يبدو أن موارد روسية مهمة أخرى تقوم بتحويل اهتمامها باطراد إلى أماكن أخرى. وأحد هذه العناصر هو “مجموعة واغنر”، وهي شركة عسكرية خاصة وأصل روسي رئيسي، والتي نشرت بشكل ثابت نحو 2.500 من عناصرها من أصل نحو 10.000 مقاتل يشكلون كامل القوة العسكرية التي تملكها روسيا في سورية. وفي وقت مبكر هو شهر آذار (مارس)، قيل إن المجموعة تحضِّر نصف أفرادها للانتشار في أفريقيا؛ حيث تنشط الآن في السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، وربما أماكن أخرى هناك. وقد قُتل ثلاثة صحفيين روس مؤخراً بينما كانوا يقومون بتصوير فيلم عن نشاطات المجموعة في جمهورية أفريقيا الوسطى، في حين ذُكِر أن 500 مقاتل من “واغنر” ينتشرون على الحدود بين السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى. ومن شبه المؤكد أن جزءاً من هذه القوات على الأقل تم سحبه من قوات “واغنر” في سورية، وهو ما يقلص وجودها هناك.
في حين أن موسكو قد تكون مستعدة لإنهاء الصراع السوري، فإن طهران ودمشق ليستا كذلك. وتستعد كلاهما لتنفيذ عملية رئيسية في الشمال الغربي، مع توجه كميات كبيرة من التعزيزات إلى تلك المنطقة مؤخراً. ويبدو أن روسيا أعطت الضوء الأخضر لتنفيذ هجوم محدود في شمال شرق محافظة اللاذقية. لكن من غير المرجح أن تتوقف قوات الحكومة السورية هناك. وفي هذا الصدد، قد يتبين أن سحب الكرملين السابق للأوان للشرطة العسكرية كان ضاراً، حيث سيكون لدى موسكو أصول قليلة تستطيع بها التأثير على حلفائها على الأرض. ويرجح أن تجد روسيا قريباً أن إرادتها وحدها لن تكون كافية لإنهاء الصراع السوري.
نيل هاور
الغد